عدوي الذي عذبني
عدوي الذي عذبني
الآن أنا رجل بريطاني عجوز. خدمت في الجيش البريطاني في الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1942 وقعت أسيراً للحرب في إحدى المعتقلات اليابانية، وكنت وقتها شاباً في الثالثة والعشرين من العمر، برتبة ملازم أول، وكنت مسئولاً عن سلاح الإشارة بالمنطقة الخامسة. وقد تم اعتقالي مع أفراد وحدتي، بالقرب من مساقط سنغافورة، حيث كان مئات الألوف من الإنجليز قد حُشروا في معتقلات نتنة، يواجهون فيها الموت جوعاً ومرضاً وتعذيباً!
" وفي داخل معسكرات التعذيب تحول البعض منا إلى عبيد يُسخَّرون في إقامة خطوط السكك الحديدية البشعة بين "بورما" وسيام، حيث أقيمت الطرق بين سلاسل الجبال الوعرة المتعرجة الشديدة الخطورة. وكان على الأسرى أن يعملوا تحت أشعة الشمس الحارقة يوماً بعد يوم، وأن يضربوا بالمعاول والفؤوس طوال النهار لقطع الغاب والأشجار المدارية القوية، وتسوية الأرض الجبلية القاسية!
" في ذلك الوقت العصيب، كانت أخبار العالم مقطوعة عنا تماماً. لذلك فإن مجموعتنا التي كانت تقوم بأعمال الصيانة في ورش السكك الحديدية، لجأت إلى محاولة لتركيب جهاز أولي بسيط لالتقاط الأخبار، فاستخدمت لفائف من الورق المفضض وأسلاك الألومنيوم والشمع، ونجحت في صنع راديو صغير تمكن من التقاط الأخبار من محطة نيودلهي. ومنه عرفنا بتقدم قوات الحلفاء وانتصاراتهم، فارتفعت روحنا المعنوية. ثم نقلنا إلى معسكر آخر على نهر كاواي، حيث الرطوبة والحرارة الشديدتان. وفي ذلك المعسكر رسمت – في السر – خريطة للموقع، وأخفيتها في ساق من الخيرزان (البامبو)، فأصبح لدينا شيئان خطيران، هما الراديو والخريطة، وكنا نعلم أن اكتشاف السلطات اليابانية لهما، سيجلب علينا من المتاعب ما لا نعرف مداه.
" وبالفعل – حدث في آب (أغسطس) 1943 أن السلطات اكتشفت جهاز الراديو، وعلى الفور بدأ العقاب. وكان العقاب أشد من أي تصور!
" في البداية أوقفتنا السلطات اليابانية تحت أشعة الشمس الحارقة، ونحن في وضع الانتباه لمدة اثنتي عشرة ساعة متصلة. وهي مدة كافية لتصفية الماء من أجسادنا، لذلك التصقت ألسنتنا بحلوقنا، على حين تجمعت الحشرات على أجسادنا والتصقت بالعرق المتصبب منا، دون أن يسمح لنا بالحركة أو بطرد هذه الحشرات. غير أن هذا التعذيب لم يكن إلا مجرد بداية للمراحل القادمة!
" حين بلغ بنا الإعياء أقصاه، بدأ الحرس السكارى يبطشون بنا في قسوة لا يتخيلها العقل، فأخذوا يضربوننا مستخدمين السهام والمعاول والفؤوس الثقيلة؛ فامتلأت الأرض بالدماء، وامتلأت آذاننا من صوت العظام وهي تتكسر وسط ضحكات الحراس وأنين الجرحى، الذين سقطوا واحداً وراء الآخر!
" وجاء دوري، فتلقيت اللكمة الأولى؛ فسرت في أوصالي آلام حارقة، وتبعتها مئات اللكمات المتلاحقة، فأحسست وكأنني أغوص في هاوية سحيقة، وسَرَت في عينيّ آلاف الومضات الضوئية البارقة! وبينما كنت مستلقياً على وجهي، داس الحراس على رأسي، فدفنوا وجهي في الحصى والرمال الخشنة الساخنة، وسمعت صوت أسناني وهي تتحطم، وعظام ذراعيَّ وهي تتكسر!
" وحين ابتعد الجنود نظرت إلى اثنين من رفاقي، كانا قد تعرضا لهذا التعذيب نفسه، فإذا بهما قد فارقا الحياة؛ فجاء الحراس، وقذفوا بجثتيهما في خندق كبير كان يستخدم كمرحاض عام! بينما أُلقي من بقى منا في قفص ضيق جداً من الخيرزان، لا يزيد ارتفاعه عن المتر ونصف المتر فقط. ولما كان طول قامتي يقترب من المترين، فقد كان من المحتم أن أقف في القفص محني الظهر! وكان عليَّ أيضاً أن أعلق ذراعي في الهواء حتى لا تتداخل العظام المحطمة تحت وطأة الزحام وتقلص العضلات! ومرت الساعات المؤلمة الثقيلة، وزحفت علينا أسراب النمل الأحمر، وتجمعت فوق جروحنا، وغطت أجسادنا الملتهبة تنهشها، ولم نستطع دفعها بعيداً عنا.
[/frame]
الآن أنا رجل بريطاني عجوز. خدمت في الجيش البريطاني في الحرب العالمية الثانية، وفي عام 1942 وقعت أسيراً للحرب في إحدى المعتقلات اليابانية، وكنت وقتها شاباً في الثالثة والعشرين من العمر، برتبة ملازم أول، وكنت مسئولاً عن سلاح الإشارة بالمنطقة الخامسة. وقد تم اعتقالي مع أفراد وحدتي، بالقرب من مساقط سنغافورة، حيث كان مئات الألوف من الإنجليز قد حُشروا في معتقلات نتنة، يواجهون فيها الموت جوعاً ومرضاً وتعذيباً!
" وفي داخل معسكرات التعذيب تحول البعض منا إلى عبيد يُسخَّرون في إقامة خطوط السكك الحديدية البشعة بين "بورما" وسيام، حيث أقيمت الطرق بين سلاسل الجبال الوعرة المتعرجة الشديدة الخطورة. وكان على الأسرى أن يعملوا تحت أشعة الشمس الحارقة يوماً بعد يوم، وأن يضربوا بالمعاول والفؤوس طوال النهار لقطع الغاب والأشجار المدارية القوية، وتسوية الأرض الجبلية القاسية!
" في ذلك الوقت العصيب، كانت أخبار العالم مقطوعة عنا تماماً. لذلك فإن مجموعتنا التي كانت تقوم بأعمال الصيانة في ورش السكك الحديدية، لجأت إلى محاولة لتركيب جهاز أولي بسيط لالتقاط الأخبار، فاستخدمت لفائف من الورق المفضض وأسلاك الألومنيوم والشمع، ونجحت في صنع راديو صغير تمكن من التقاط الأخبار من محطة نيودلهي. ومنه عرفنا بتقدم قوات الحلفاء وانتصاراتهم، فارتفعت روحنا المعنوية. ثم نقلنا إلى معسكر آخر على نهر كاواي، حيث الرطوبة والحرارة الشديدتان. وفي ذلك المعسكر رسمت – في السر – خريطة للموقع، وأخفيتها في ساق من الخيرزان (البامبو)، فأصبح لدينا شيئان خطيران، هما الراديو والخريطة، وكنا نعلم أن اكتشاف السلطات اليابانية لهما، سيجلب علينا من المتاعب ما لا نعرف مداه.
" وبالفعل – حدث في آب (أغسطس) 1943 أن السلطات اكتشفت جهاز الراديو، وعلى الفور بدأ العقاب. وكان العقاب أشد من أي تصور!
" في البداية أوقفتنا السلطات اليابانية تحت أشعة الشمس الحارقة، ونحن في وضع الانتباه لمدة اثنتي عشرة ساعة متصلة. وهي مدة كافية لتصفية الماء من أجسادنا، لذلك التصقت ألسنتنا بحلوقنا، على حين تجمعت الحشرات على أجسادنا والتصقت بالعرق المتصبب منا، دون أن يسمح لنا بالحركة أو بطرد هذه الحشرات. غير أن هذا التعذيب لم يكن إلا مجرد بداية للمراحل القادمة!
" حين بلغ بنا الإعياء أقصاه، بدأ الحرس السكارى يبطشون بنا في قسوة لا يتخيلها العقل، فأخذوا يضربوننا مستخدمين السهام والمعاول والفؤوس الثقيلة؛ فامتلأت الأرض بالدماء، وامتلأت آذاننا من صوت العظام وهي تتكسر وسط ضحكات الحراس وأنين الجرحى، الذين سقطوا واحداً وراء الآخر!
" وجاء دوري، فتلقيت اللكمة الأولى؛ فسرت في أوصالي آلام حارقة، وتبعتها مئات اللكمات المتلاحقة، فأحسست وكأنني أغوص في هاوية سحيقة، وسَرَت في عينيّ آلاف الومضات الضوئية البارقة! وبينما كنت مستلقياً على وجهي، داس الحراس على رأسي، فدفنوا وجهي في الحصى والرمال الخشنة الساخنة، وسمعت صوت أسناني وهي تتحطم، وعظام ذراعيَّ وهي تتكسر!
" وحين ابتعد الجنود نظرت إلى اثنين من رفاقي، كانا قد تعرضا لهذا التعذيب نفسه، فإذا بهما قد فارقا الحياة؛ فجاء الحراس، وقذفوا بجثتيهما في خندق كبير كان يستخدم كمرحاض عام! بينما أُلقي من بقى منا في قفص ضيق جداً من الخيرزان، لا يزيد ارتفاعه عن المتر ونصف المتر فقط. ولما كان طول قامتي يقترب من المترين، فقد كان من المحتم أن أقف في القفص محني الظهر! وكان عليَّ أيضاً أن أعلق ذراعي في الهواء حتى لا تتداخل العظام المحطمة تحت وطأة الزحام وتقلص العضلات! ومرت الساعات المؤلمة الثقيلة، وزحفت علينا أسراب النمل الأحمر، وتجمعت فوق جروحنا، وغطت أجسادنا الملتهبة تنهشها، ولم نستطع دفعها بعيداً عنا.
تعليق