مشاركة: لماذا اربعة اناجيل ؟؟؟؟
ثالثا – خصائص الإنجيل والدليل الداخلي :
1- الخطوط العريضة للهجوم والدفاع : لقد تعرض الدليل الخارجي للإنجيل الرابع للنقد، ولكن – قبل كل شئ – تقوم معارضة نسبة كتابة الإنجيل إلي يوحنا وحجيته التاريخية، علي أسس داخلية، فيشدد المعارضون علي التباين الواسع – والمعترف به – في الأسلوب والطبيعة والمنهج، بين الإنجيل الرابع والأناجيل الثلاثة الأولي، وعلي ما يزعمونه من صبغته الفلسفية (عقيدة الكلمة – "اللوجس") ، وعلي أخطاء ومتناقضات مزعومة، وعدم الاضطراد في القصة .. إلخ.
أما الدفاع عن الإنجيل فيقوم عادة علي أساس إبراز أهداف الإنجيل المتنوعة، وتفنيدا لمبالغات في الاعتراضات السابق ذكرها، وإثبات أنه بطرق كثيرة، يكشف كاتب الإنجيل عن شخصية، وأنه هو الرسول يوحنا. فقد كان – علي سبيل المثال – يهودياً من سكان فلسطين ملما بطبوغرافية أورشليم .. إلخ، كما كان رسولاً، وشاهد عيان، " والتلميذ الذي كان يسوع يحبه" (يوحنا 13 : 23،20 : 2، 21 : 20و7)، والشهادة المسجلة فيه (21 : 24) من الذين عرفوا الكاتب إبان حياته، لهي شهادة بالغة القيمة في هذا المجال. وبدلاً من تتبع هذه الخطوط المعروفة (انظر في هذا الخصوص : جودت ولوتهاردت، وستكوت، أبوت، دراموند .. إلخ، في مؤلفاتهم السابق ذكرها). سيتجه بحثنا هنا إلي برهان علي أساس دراسة شاملة حديثة .
2- افتراضات نقدية لا مبرر لها : إن دراسة كتابات يوحنا بصفة عامة، والإنجيل الرابع بصفة خاصة، قد طرقت بسبل متعددة، ومن وجهات نظر متنوعة. وأحدى أكثر هذه الطرق شيوعاً – في المؤلفات الحديثة – هي التي تزعم أن إنجيل يوحنا هو نتاج الفكر المسيحي حول الحقائق المذكورة في الأناجيل الأخرى ، وأن هذه الحقائق قد طورتها خبرة الكنيسة، فهي إذاً تعكس فكر الكنيسة في نهاية القرن الأول أو بداية القرن الثاني – فيفترضون أنه في ذلك الوقت – وقد أصبحت الكنيسة بصفة رئيسية كنيسة من الأمم – قد تأثرت كثيراً بالثقافة اليونانية الرومانية، حتي انعكس هذا علي تاريخها، وهكذا تحول تراثها الأصيل ليتلاءم مع البيئة الجديدة، ويزعمون أننا نرى في الإنجيل الرابع أبلغ عرض لنتائج هذه العملية. ويبدأ بيكون الموضوع بالرسول بولس وتأثيره، ويتابع ذلك حتى يصل إلي القول بقيام مدرسة من اللاهوتيين في أفسس هي التي أخرجت كتابات يوحنا، وأن فكر الكنيسة قد استراح لهذا العرض الجديد للمسيحية (انظر كتابه عن "الإنجيل الرابع بين البحث والحوار"). إن ما يراه هذا النوع من العلماء في الإنجيل الرابع، إنما هو أفكار هيلينية في صيغة عبرية، بعد أن تحولت حقائق الإنجيل لتكون مقبولة عند الفكر اليوناني.
ويأتي آخرون إلي الإنجيل الرابع ولديهم افتراض مسبق بأن القصد منه هو أن يقدم للقارئ صورة مكتملة عن حياة يسوع، باستكمال وتصحيح أقوال الأناجيل الثلاثة الأخرى، وتقديم المسيح في صورة تشبع الاحتياجات الجديدة للكنيسة في بداية القرن الثاني، بينما يري آخرون هدفاً جدلياً في هذا الإنجيل، فمثلاً يرى فيه "ويزساكر" هدفاً جدلياً قوياً ضد اليهود، ويقول: "هناك الاعتراضات التي أثارها اليهود ضد الكنيسة بعد أن أكتمل انفصالها، وبعد أن مر تطور شخص مسيحها في أهم مراحله .." (العصر الرسولي جزء 2 – ص 222). ويتوقع المرء أن عبارة بمثل هذه القوة، يجب أن تستند إلي بعض البراهين وأن نجد بعض الأدلة التاريخية عن قيام جدال بين اليهود والكنيسة، غير ما يرونه في الإنجيل الرابع ذاته، ولكن ويزساكر لا يقدم شيئاً من ذلك ، سوى القول بأنها مواضيع جدلية بين مدارس فكرية مختلفة، وإنها بصورتها الراهنة ليست إلا مفارقات تاريخية. ولكننا نعرف من الحوار بين ستينوس الشهيد وتريفو اليهودي، الموضوعات التي تناولها الحوار بين اليهود والمسيحيين في منتصف القرن الثاني، ويكفي أن نقول إن هذه الموضوعات – كما يخبرنا يوستينوس – كانت تتعلق بصورة رئيسية بتفسير العهد القديم، وليست تلك الموضوعات التي يناقشها الإنجيل الرابع.
ولعل أكثر الافتراضات إثارة للدهشة فيما يتعلق بالإنجيل الرابع، هي تلك التي تعتمد علي افتراض أن القصد من الإنجيل الرابع هو الدفاع عن تعليم مسيحي عن الأسرار كان قد ازدهر في بدء القرن الثاني. وطبقاً لهذا الافتراض، قد أرسي الإنجيل الرابع تعليماً عن الأسرار جعلها في موقع فريد كوسيلة للخلاص.
ونحن لا نعلق كثيراً عن وجهة النظر هذه ، لأن التفسير الذى يرى تعليم الأسرار فى الإنجيل الرابع ، تفسير لا أساس له ، فهذا الإنجيل لا يضع الأسرار فى مقام المسيح ، كما يزعمون . وأخيراً ، فإننا لا نجد حجة مقبولة للذين يؤكدون أن الإنجيل الرابع كتب لجعل إنجيل يسوع أكثر قبولا عند الأمم ، والحقيقة هي أن إنجيل متى كان أكثر الأناجيل قبولاً عند الأمم ، فقد اقتبسوا منه واستشهدوا به أكثر من سائر الأناجيل . ففي كتابات الكنيسة الأولي ، اقتباسات من إنجيل متى تعادل كل الاقتباسات من باقي الأناجيل مجتمعة . ولم يبرز الإنجيل الرابع إلى المقدمة فى الكنيسة المسيحية إلا عندما ثار الجدل حول شخص المسيح ، فى القرن الثالث.
3 - الهدف الحقيقي للإنجيل – والنتائج : عندما نعود إلى الإنجيل نفسه بحثاً عن الهدف منه، نجد الجواب بسيطاً واضحاً ، إذ يقول كاتب الإنجيل مؤكداً : "وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب فى هذا الكتاب . وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يو20 : 31و30) ، وإذا سرنا وراء هذا الدليل الواضح ، وطرحنا كل الافتراضات التى تزخر بها المقدمات والتفسيرات وتواريخ عصور الرسل وما بعدها ، لوجدنا الكثير من المفاجاءات :
أ – علاقته بالأناجيل الثلاثة الأولي : هناك فروق كثيرة بين هذا الإنجيل والأناجيل الثلاثة الأخرى ، ولكن ما يثير الدهشة حقاً ، هو تلك الحقيقة ، أن نقاط الالتقاء بين هذه الأناجيل والإنجيل الرابع قليلة جداً . فبينما يقول جميع النقاد – الذين أشرنا إليهم سابقاً – إن الكاتب أو المدرسة التى جمعت كتابات يوحنا ، مدينة للأناجيل الثلاثة الأخرى بكل الحقائق الواردة فى الإنجيل الرابع تقريباً ، نجد أنه فيما عدا أحداث أسبوع الآلام ، لا توجد سوى نقطتين فقط من نقاط الالتقاء ، تظهران فيه بوضوح ، هما إشباع الخمسة الآلاف ، والمشي على البحر (يوحنا 6 : 4-21) . أما شفاء ابن خادم الملك (يو 4 : 46-53) فليس هو نفسه شفاء خادم قائد المئة (فى متى ولوقا) ، وحتى إذا افترضنا تطابق الحادثتين ، فيكون هذا هو كل ما عندنا فى الإنجيل الرابع عن أحداث خدمته فى الجليل ، ولكن هناك خدمته الأولي فى اليهودية وفى الجليل التى بدأت قبل أن يلقي يوحنا المعمدان فى السجن (يو3 : 24) وهو ما لا يوجد ما يقابله فى الأناجيل الثلاثة الأخرى . فلا يكرر نقل المعلومات التى يمكن جمعها من الثلاثة الأخرى ، بل يسير على نهج خاص به وينتقى من الأحداث ما يريد ، ويقدمها من وجهة النظر الخاصة للإنجيل ، كما أن له مبدأه الخاص فى هذا الانتقاء أو الاختيار ، وهو المبدأ الذى ذكره فى الفقرة التى سبق أن اقتبسناها . فالمشاهد التى يصورها والأعمال التى يحكى عنها ، والأقوال التى يرويها والتعليقات التى يقدمها الكاتب ، كل هذه موجهة نحو هدف مساعدة القراء على الإيمان بأن يسوع المسيح هو ابن الله ، كما أن الكاتب يقرر أن نتيجة هذا الإيمان هى أن تكون لهم حياة باسمه.
ب – الزمن الذى يغطيه الإنجيل : وعلينا – استرشاداً بالمبدأ الذى ذكرناه – أن نعود للإنجيل ، وأول شيئ يستلفت نظر القارئ هو الزمن القصير الذى تغطيه أو تشغله المشاهد التى يصفها الإنجيل . ولنأخذ ليلة تسليمه ويوم الصلب ، فنجد أن الأمور التى حدثت والأقوال التى قيلت فى ذلك اليوم – من غروب الشمس إلى غروبها (أى يوم كامل) – لا تشغل أقل من سبعة أصحاحات من الإنجيل (من 13-19) . وعلاوة على الأصحاح التكميلي (الأصحاح الحادى والعشرين) ، هناك عشرون أصحاحاً فى الإنجيل تحتوى على 797عدداً ، وهذه الأصحاحات السبعة تحتوى على 257عدداً ، أى أن أكثر من ثلث الإنجيل كله تستغرقه أحداث يوم واحد.
ونعلم مما جاء فى سفر الأعمال ( 1: 3) أن الرب المقام ظل يظهر للتلاميذ مدة أربعين يوماً، ولكن يوحنا لا يسجل كل ما حدث فى أثناء هذه الأيام، بل يسجل فقط ما حدث يوم القيامة ، وما حدث فى يوم آخر بعد ذلك بثمانية أيام ( الأصحاح العشرون) ، أما الأحداث التى سجلت فى الأناجيل الأخرى، فتتوارى كقضية مسلم بها، ولا يسجل سوى الآيات التى حدثت فى هذين اليومين، وهو يسجلها لأن لها أهمية خاصة بالنسبة للهدف الذى كان أمامه، وهو أن يؤمنوا بحقيقة أن يسوع هو المسيح ابن الله. وإن سرنا فى أثر الدليل المقدم لنا فى الإنجيل، فإننا نندهش لقلة الأيام التى تم فيها أى شئ. وعندما نقرأ قصة الإنجيل الرابع نجد كثيراً من الإشارات عن مرور الوقت، وعبارات كثيرة دقيقة عن التواريخ، ونعلم من الإنجيل أن خدمة يسوع قد استغرقت – على الأرجح – ثلاث سنوات، ونستنتج هذا من عدد الأعياد التى حضرها فى أورشليم ، كما أن لدينا بعض ملحوظات عن الوقت الذى قضاه فى السفرات، ولكن ليس لدينا معلومات عما حدث فى أثنائها ، وقلما تذكر الأيام التى حدث فيها أي شئ، أو قيل فيها أي حديث. ولكنه يذكر لنا بكل دقة أنه: " قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر" ( يو12: 1)، وبالنظر إلى هذه الأيام الستة لا يحدثنا إلا عن العشاء وعن حادثة دهن مريم لقدمي يسوع بالطيب، والدخول إلى أورشليم وزيارة اليونانيين، وعن وقع هذه الزيارة عند يسوع . كما أننا نرى ما انطبع فى فكر البشير عن عدم إيمان اليهود ، ولكنا لا نعرف ما هو أكثر من ذلك . ونحن نعلم أن أموراً كثيرة جداً قد حدثت فى تلك الأيام ، ولكنها لم تسجل فى هذا الإنجيل . ولم يسجل لنا شيئاً عن اليومين اللذين مكثهما فى الموضع الذى كان فيه عندما بلغه خبر مرض لعازر ، وقصة إقامة لعازر هى قصة يوم واحد (الأصحاح الحادى عشر). والأمر كذلك أيضاً مع قصة شفاء الأعمى ، فقد تم الشفاء فى يوم ما ، وما ثار من جدل حول أهمية ذلك الشفاء ، هو كل ما سجله عن يوم آخر (الأصحاح التاسع) . وما يسجله فى الأصحاح العاشر هو قصة يومين . وقصة الأصحاحين السابع والثامن – ويقطعهما الحاد4 العرضي عن المرأة التى أمسكت فى ذات الفعل – هى قصة لا تستغرق أكثر من يومين . وقصة إطعام الخمسة الآلاف والحديث الذى أعقبها (الأصحاح السادس) هى قصة يومين أيضاً . وليس من الضروري الدخول فى تفصيلات أكثر ، ومع هذا فإن الكاتب – كما لاحظنا - دقيق جداً فى ملحوظاته عن الوقت ، فهو يلاحظ الأيام ، وعدد الأيام التى يتم فيها عمل ما ، أو التى قيل فيها حديث ما . ونحن نذكر هذه الملحوظات التى قد تكون جلية أمام كل قارئ يهتم بها ، نذكرها أساساً بهدف إثبات أن الإنجيل – بكل وضوح وجلاء – لا يقصد ولم يقصد مطلقاً أن يقدم قصة كاملة عن حياة المسيح وأعماله . وهو يقدم لنا – على أكثر تقدير – معلومات عن عشرين يوماً من بين أكثر من ألف يوم هى مدة خدمة الرب . وهذا وحده كاف لنقض فكرة الذين يتناولون الإنجيل الرابع ، كما لو كان مقصوداً منه أن يحذف أو يكمل أو يصحح الروايات المذكورة فى الأناجيل الثلاثة الأخرى ، فواضح تماماً أن هذا الإنجيل لم يكتب لهذا الغرض .
ج-سجل شخصي : يذكر الإنجيل بكل وضوح أنه استرجاع لذكريات الماضي ، لشخص كانت له صلة شخصية بالخدمة التى يصفها ، فالنغمة الشخصية واضحة فى الإنجيل من بدايته إلى نهايته ، فهي موجودة حتى فى المقدمة لأنه فى الآية التى يعلن فيها الحقيقة العظمى عن التجسد ، يستخدم الصيغة الشخصية "رأينا (نحن) مجده" (يو 1 : 14) ، ويمكن اعتبار هذا الفكرة الأساسية للإنجيل كله . وفى كل المشاهد الواردة فى الإنجيل يعتقد الكاتب أن فى جميعها أظهر يسوع مجده وعمَّق إيمان تلاميذه . فلو سألنا يوحنا : متى عاين مجد الكلمة المتجسد ؟ لكان جوابه : فى كل المشاهد الموصوفة فى الإنجيل . فإذا قرأنا الإنجيل من وجهة النظر هذه ، نجد أن الكاتب كان له مفهوم عن مجد "الكلمة" المتجسد يختلف تماماً عن المفهوم الذى ينسبه إليه النقاد . إنه يرى مجد "الكلمة" فى حقيقة أنه "تعب" من السفر (يو4 : 6) ، وفى أنه صنع من التفل طيناً وطلي به عيني الأعمى (يو9 : 6) ، وفى أنه بكى عند قبر لعازر (يو 11 : 35)، وفى أنه انزعج فى نفسه (يو 11 : 38) ، وأنه يمكنه أن يكتئب ويحزن حزناً لا يعبر عنه كما حدث بعد مقابلته لليونانيين (يو12 : 27) . لذلك فهو يسجل كل هذه الأشياء ، لأنه يعتقد أنها متناغمة مع مجد الكلمة المتجسد . إن التفسير السليم لا يمكن أن يتجاهل هذه الأمور ، بل يجب أن يعتبرها جزءاً من مجد الكلمة المعلن.
فالإنجيل إذاً بكل وضوح هو ذكريات شاهد عيان ، ذكريات شخص كان موجوداً بنفسه فى كل المشاهد التى يصفها ، ولا شك أن هذه الذكريات كثيراً ما كانت تجعله يتأمل فى معنى ودلالة ما يصفه ، فكثيراً ما كان يتوقف ليقول كيف أن التلاميذ – وهو واحد منهم – لم يفهموا فى ذلك الوقت معنى بعض الأقوال ، أو دلالة بعض الأعمال التى عملها يسوع (يو 2 : 22 ، 12 : 16.. إلخ) . وفى بعض الأحيان لا نكاد نميز بين كلمات السيد وبين تعليقات يوحنا ، ولكننا أيضاً كثيراُ ما نقابل نفس الظاهرة فى الكتابات الأخرى ، ففى الرسالة إلى أهل غلاطية ، مثلاً يكتب بولس عما واجه به بطرس فى أنطاكية : "… إن كنت وأنت يهودى تعيش أممياً لا يهودياً فلماذا تلزم الأمم أن يتهودوا" (غل 2 : 14) ، وبعدها بقليل ينتقل إلى التعليق على الموقف . ويستحيل علينا أن نحدد أين ينتهى الحديث المباشر ، ومتى يبدأ التعليق . وهكذا الأمر فى الإنجيل الرابع ، ففي الكثير من الحالات ، يستحيل علينا أن نقول أين تنتهى كلمات يسوع وأين تبدأ تعليقات الكاتب . وهذا ما نراه – على سبيل المثال – فى الحديث عن شهادة المعمدان فى الأصحاح الثالث . فلعل كلمات المعمدان تنتهى بالعبارة : "ينبغـى أن ذلك يزيـد وأنـي أنا أنقص" (يو 3 : 30) ، أما ما بعدها فقد يكون تعليق الكاتب على الموضوع .
د – ذكريات شاهد عيان : "هكذا نجد أن الإنجيل هو ذكريات شاهد عيان للأحداث الماضية مع انطباعاته عن معنى ما مر به من اختبارات . لقد كان موجوداً فى المشاهد التى يصفها . لقد كان موجوداً فى دار رئيس الكهنة" ، وكان حاضراً عند الصليب ويشهد بحقيقة موت يسوع (يو 18 : 15 ، 19 : 35) . وإذ نقرأ الإنجيل نلاحظ مقدار التأكيد الذى يضعه على كلمة "يشهد" ومشتقاتها ، فهو يستخدم هذه الكلمة كثيراً (يو 1 : 19و8و7 ، 3 : 33و26و11 ، 5 : 31 ، 12 : 17 ، 21 : 24 … إلخ) ، وهو يستخدمها هكذا لتأكيد الحقائق التى عاينها . وفى هذه الشهادات نجد ربطاً غير عادي بين فكر رفيع وقوة ملاحظة دقيقة . ففى وقت واحد ، يحلق البشير عالياً من عالم روحى ويتحرك فى يسر وسهولة بين أثمن وأسمى عناصر الاختبار الروحي ، مستخدماً كلمات عادية ، ولكنه يضمنها أعمق المعاني عن الإنسان والعالم ، مما لم يخطر من قبل فى فكر إنسان . وتجتمع فى كتاباته العجيبة أسمى درجات التصوف مع الإدراك العملي المفتوح العينين . وفوق كل شيء تدهشنا روعة إحساسه بالقيمة العظمي للجانب التاريخي ، فكل معانيه الروحية لها أساس تاريخي ، وهذا واضح فى رسالته الأولي وضوحه فى الإنجيل ، حيث نراه رائعاً جلياً . وبينما كان اهتمامه الأصيل أن يشد انتباه قارئيه إلى يسوع وعمله وكلمته ، فإنه – دون قصد – سجل تاريخ حياته الروحية ، وشيئاً فشيئاً ونحن نطالع الإنجيل مندمجين فى روحه ، نجد أننا نسير فى موكب نهضة روحية عظيمة ونتابع نمو الإيمان والمحبة فى حياة الكاتب ، إلى أن تصبح هذه هى النغمة السائدة فى حياته كلها . فمن ناحية نجد أن الكتاب رؤية موضوعية عظيمة عن حياة فريدة ، وقصة إعلان ابن الله لشخصه، وإعلان الآب فى يسوع المسيح ، إلى أن تصل إلى غايتها عبر التطورات المتضاربة من الإيمان والشك عند الذين قبلوه وعند الذين رفضوه . ومن الناحية الأخرى نجد فيه عنصراً ذاتياً فى قلب الكاتب ، حيث يخبرنا كيف بدأ الإيمان وكيف نما وتقدم حتى وصل إلى معرفة ابن الله . إننا نستطيع أن نستجلي الأزمات المتنوعة التى اجتاز فيها ، والتى عن طريقها – وهو يجتازها على التوالي – حصل على اليقين الذى يعبر عنه بمثل هذا الهدوء ، فهي التى أمدته بالمفتاح الذى به استطاع أن يكشف عن سر اعلانات يسوع للعالم . إن انتصار الإيمان الذى يرسمه لنا ، قد اختبره فى داخل نفسه أولاً ، وهو ما تتضمنه تلك العبارة الرائعة ذات الدلالة العميقة : "رأينا مجده" (يو 1 : 14).
هـ – إيضاح لذكريات الماضي : ويتأكد الإنجيل تأكيداً قاطعاً ، بالتأمل فى طبيعة "التذكر" بوجه عام ، فالقاعدة العامة للتذكر هى أننا عندما نتذكر شيئاً ما أو حادثاً ما ، فإننا نتذكره بكل كلياته مع كل الملابسات المصاحبة له ، وعندما نخبر الآخرين به ، فعلينا أن نختار ما يلزم لتوضيح المعنى الذى نريده . والطبائع غير الفنية ليس لها القدرة على الاختيار ، بل تصب كل ما يخطر على البال (كما يقول شكسبير) . إن أروع خصائص التذكر نجدها بوفرة فى الإنجيل الرابع ، وهى تقدم لنا برهاناً قائماً بذاته على أنه بقلم شاهد عيان . ولا يتسع المجال أمامنا هنا إلا لذكر أمثلة قليلة . لاحظ أولاً تلك الملحوظات الدقيقة عن الوقت فى الأصحاح الأول ، والملحوظات الخاصة عن كل شخصية من التلاميذ الستة الذين قابلهم يسوع فى الأيام الأربعة الأولي من خدمته . ولاحظ الصورة التى يسجلها من أن نثنائيل كان تحت التينة (1 : 50) ، ثم ملحوظة وجود أجران الماء الستة فى قانا الجليل حسب عادة اليهود فى التطهير (يو 2 : 6) . ويمكن أن نشير فى هذا الخصوص إلى الملحوظات الجغرافية التى وردت كثيراً فى سياق القصة ، والتى تبين معرفة وثيقة بفلسطين ، وإلى الإشارات العديدة للنواميس والعادات والمعتقدات والاحتفالات الدينية اليهودية ، والتى يعترف الجميع الآن أنها تدل على دقة الكاتب وتصويره الرائع للأحداث . إن هدفنا الرئيسي هو أن نسترعى الانتباه إلى تلك الأمور العرضية التى ليست لها أهمية رمزية ، ولكنها سجلت لأنها من الملابسات التى تداعت فى الفكر عند تذكر الحادث الرئيسي . وهو يرى أيضاً "الغلام" صاحب الأرغفة الخمسة من الشعير والسمكتين (يو 6 : 9) ، ويتذكر أن مريم جلست فى البيت بينما هرعت مرثا لتقابل الرب عندما اقترب من بيت عنيا (يو 11 : 20) ، ويذكر لعازر وهو يخرج مربوط اليدين والرجلين بأكفان القبر (11 : 44) ، وترتسم أمامه صورة حية لحادثة غسل أرجل التلاميذ (13 : 1-5) ، وكذلك التصرفات والأقوال التى صدرت عن التلاميذ فى تلك الليلة المليئة بالأحداث . وهو مازال يرى مسلك الجند الذين جاءوا للقبض على يسوع (18 : 3-8) ، ويتذكر سيف بطرس وهو يلمع فى الظلام (18 : 10) ، ومشاركة نيقوديموس فى دفن يسوع ، وأنواع وأوزان الحنوط التى أحضرها لتحنيط الجسد ( 19 : 38-40) . ويتحدث عن العناية الواضحة فى طي الثياب الكتانية ، وكيف كانت موضوعة فى القبر الفارغ (20 : 4-8) . هذه بعض اللمسات الحية فى هذه الذكريات ، والتى لا يستطيع أن يذكرها بهذه الدقة والروعة إلا شاهد عيان ، وإذ يلقى البشير نظرة إلى الوراء ، يذكر المشاهد المتنوعة ، وكلمات السيد بكل كمالها كما حدثت ، ويختار تلك اللمسات الحية التى تحمل علامة الصدق لكل القراء.
و – نتائج : هذه اللمسات من الواقع الحى تبرر القول بأن كاتب هذا الإنجيل يصور المشاهد من واقع الحياة ، وليس من خياله . وهو إذ يلقي نظرة على تاريخه الروحي الشخصي ، يتذكر بصورة خاصة تلك الكلمات والأعمال التى قام بها المسيح والتى حددت مسار حياته الخاصة وقادته إلى يقين الإيمان الكامل ومعرفة ابن الله . ويمكن فهم الإنجيل من وجهة النظر هذه ، ويبدو لنا أنه لا يمكن فهمه عن أى طريق آخر دون تجاهل كل الظواهر التى أشرنا اليها على سبيل المثال . وعندما ننظر إلى الإنجيل من وجهة النظر هذه ، نستطيع إهمال الكثير من المناقشات المستفيضة حول احتمال تغير موضع بعض الأصحاحات (كما يزعم سبيتا وآخرون) . وعلى سبيل المثال ، لقد ذُكر الكثير عن الانتقال الفجائي فى المشهد من الجليل إلى اليهودية عندما ننتقل من الأصحاح الرابع إلى الأصحاح الخامس ، والانتقال الفجائي المماثل فى العودة إلى الجليل (يو 6 : 1) ، وقد وضع الكثير من المقترحات ، ولكنها كلها تنبع من افتراض أن تذكر الأحداث الماضية يجب أن يكون متصلاً ، وهو غير الواقع . وبينما يحتمل جداً أنه كان هناك تتابع فى ذهن الكاتب ، ولكن هذا لا يضطرنا إلى التفكير فى تغير موضع بعض الأصحاحات ، وإذ نأخذها كما هى فى الإنجيل، فإن الأدلة المختارة – سواء حدثت فى اليهودية أو فى الجليل – تشير فى كل الأحوال إلى نوع من التقدم . وهى – من ناحية – تعبَّر عن مجد يسوع الظاهر ، ومن الناحية الأخرى ، عن نمو الإيمان وتطور عدم الإيمان . وهذا يفتح أمامنا مجالاً جديداً للاعتراض والتساؤل ، وهو ما سنتناوله الآن :
ثالثا – خصائص الإنجيل والدليل الداخلي :
1- الخطوط العريضة للهجوم والدفاع : لقد تعرض الدليل الخارجي للإنجيل الرابع للنقد، ولكن – قبل كل شئ – تقوم معارضة نسبة كتابة الإنجيل إلي يوحنا وحجيته التاريخية، علي أسس داخلية، فيشدد المعارضون علي التباين الواسع – والمعترف به – في الأسلوب والطبيعة والمنهج، بين الإنجيل الرابع والأناجيل الثلاثة الأولي، وعلي ما يزعمونه من صبغته الفلسفية (عقيدة الكلمة – "اللوجس") ، وعلي أخطاء ومتناقضات مزعومة، وعدم الاضطراد في القصة .. إلخ.
أما الدفاع عن الإنجيل فيقوم عادة علي أساس إبراز أهداف الإنجيل المتنوعة، وتفنيدا لمبالغات في الاعتراضات السابق ذكرها، وإثبات أنه بطرق كثيرة، يكشف كاتب الإنجيل عن شخصية، وأنه هو الرسول يوحنا. فقد كان – علي سبيل المثال – يهودياً من سكان فلسطين ملما بطبوغرافية أورشليم .. إلخ، كما كان رسولاً، وشاهد عيان، " والتلميذ الذي كان يسوع يحبه" (يوحنا 13 : 23،20 : 2، 21 : 20و7)، والشهادة المسجلة فيه (21 : 24) من الذين عرفوا الكاتب إبان حياته، لهي شهادة بالغة القيمة في هذا المجال. وبدلاً من تتبع هذه الخطوط المعروفة (انظر في هذا الخصوص : جودت ولوتهاردت، وستكوت، أبوت، دراموند .. إلخ، في مؤلفاتهم السابق ذكرها). سيتجه بحثنا هنا إلي برهان علي أساس دراسة شاملة حديثة .
2- افتراضات نقدية لا مبرر لها : إن دراسة كتابات يوحنا بصفة عامة، والإنجيل الرابع بصفة خاصة، قد طرقت بسبل متعددة، ومن وجهات نظر متنوعة. وأحدى أكثر هذه الطرق شيوعاً – في المؤلفات الحديثة – هي التي تزعم أن إنجيل يوحنا هو نتاج الفكر المسيحي حول الحقائق المذكورة في الأناجيل الأخرى ، وأن هذه الحقائق قد طورتها خبرة الكنيسة، فهي إذاً تعكس فكر الكنيسة في نهاية القرن الأول أو بداية القرن الثاني – فيفترضون أنه في ذلك الوقت – وقد أصبحت الكنيسة بصفة رئيسية كنيسة من الأمم – قد تأثرت كثيراً بالثقافة اليونانية الرومانية، حتي انعكس هذا علي تاريخها، وهكذا تحول تراثها الأصيل ليتلاءم مع البيئة الجديدة، ويزعمون أننا نرى في الإنجيل الرابع أبلغ عرض لنتائج هذه العملية. ويبدأ بيكون الموضوع بالرسول بولس وتأثيره، ويتابع ذلك حتى يصل إلي القول بقيام مدرسة من اللاهوتيين في أفسس هي التي أخرجت كتابات يوحنا، وأن فكر الكنيسة قد استراح لهذا العرض الجديد للمسيحية (انظر كتابه عن "الإنجيل الرابع بين البحث والحوار"). إن ما يراه هذا النوع من العلماء في الإنجيل الرابع، إنما هو أفكار هيلينية في صيغة عبرية، بعد أن تحولت حقائق الإنجيل لتكون مقبولة عند الفكر اليوناني.
ويأتي آخرون إلي الإنجيل الرابع ولديهم افتراض مسبق بأن القصد منه هو أن يقدم للقارئ صورة مكتملة عن حياة يسوع، باستكمال وتصحيح أقوال الأناجيل الثلاثة الأخرى، وتقديم المسيح في صورة تشبع الاحتياجات الجديدة للكنيسة في بداية القرن الثاني، بينما يري آخرون هدفاً جدلياً في هذا الإنجيل، فمثلاً يرى فيه "ويزساكر" هدفاً جدلياً قوياً ضد اليهود، ويقول: "هناك الاعتراضات التي أثارها اليهود ضد الكنيسة بعد أن أكتمل انفصالها، وبعد أن مر تطور شخص مسيحها في أهم مراحله .." (العصر الرسولي جزء 2 – ص 222). ويتوقع المرء أن عبارة بمثل هذه القوة، يجب أن تستند إلي بعض البراهين وأن نجد بعض الأدلة التاريخية عن قيام جدال بين اليهود والكنيسة، غير ما يرونه في الإنجيل الرابع ذاته، ولكن ويزساكر لا يقدم شيئاً من ذلك ، سوى القول بأنها مواضيع جدلية بين مدارس فكرية مختلفة، وإنها بصورتها الراهنة ليست إلا مفارقات تاريخية. ولكننا نعرف من الحوار بين ستينوس الشهيد وتريفو اليهودي، الموضوعات التي تناولها الحوار بين اليهود والمسيحيين في منتصف القرن الثاني، ويكفي أن نقول إن هذه الموضوعات – كما يخبرنا يوستينوس – كانت تتعلق بصورة رئيسية بتفسير العهد القديم، وليست تلك الموضوعات التي يناقشها الإنجيل الرابع.
ولعل أكثر الافتراضات إثارة للدهشة فيما يتعلق بالإنجيل الرابع، هي تلك التي تعتمد علي افتراض أن القصد من الإنجيل الرابع هو الدفاع عن تعليم مسيحي عن الأسرار كان قد ازدهر في بدء القرن الثاني. وطبقاً لهذا الافتراض، قد أرسي الإنجيل الرابع تعليماً عن الأسرار جعلها في موقع فريد كوسيلة للخلاص.
ونحن لا نعلق كثيراً عن وجهة النظر هذه ، لأن التفسير الذى يرى تعليم الأسرار فى الإنجيل الرابع ، تفسير لا أساس له ، فهذا الإنجيل لا يضع الأسرار فى مقام المسيح ، كما يزعمون . وأخيراً ، فإننا لا نجد حجة مقبولة للذين يؤكدون أن الإنجيل الرابع كتب لجعل إنجيل يسوع أكثر قبولا عند الأمم ، والحقيقة هي أن إنجيل متى كان أكثر الأناجيل قبولاً عند الأمم ، فقد اقتبسوا منه واستشهدوا به أكثر من سائر الأناجيل . ففي كتابات الكنيسة الأولي ، اقتباسات من إنجيل متى تعادل كل الاقتباسات من باقي الأناجيل مجتمعة . ولم يبرز الإنجيل الرابع إلى المقدمة فى الكنيسة المسيحية إلا عندما ثار الجدل حول شخص المسيح ، فى القرن الثالث.
3 - الهدف الحقيقي للإنجيل – والنتائج : عندما نعود إلى الإنجيل نفسه بحثاً عن الهدف منه، نجد الجواب بسيطاً واضحاً ، إذ يقول كاتب الإنجيل مؤكداً : "وآيات أخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب فى هذا الكتاب . وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أن يسوع هو المسيح ابن الله، ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه" (يو20 : 31و30) ، وإذا سرنا وراء هذا الدليل الواضح ، وطرحنا كل الافتراضات التى تزخر بها المقدمات والتفسيرات وتواريخ عصور الرسل وما بعدها ، لوجدنا الكثير من المفاجاءات :
أ – علاقته بالأناجيل الثلاثة الأولي : هناك فروق كثيرة بين هذا الإنجيل والأناجيل الثلاثة الأخرى ، ولكن ما يثير الدهشة حقاً ، هو تلك الحقيقة ، أن نقاط الالتقاء بين هذه الأناجيل والإنجيل الرابع قليلة جداً . فبينما يقول جميع النقاد – الذين أشرنا إليهم سابقاً – إن الكاتب أو المدرسة التى جمعت كتابات يوحنا ، مدينة للأناجيل الثلاثة الأخرى بكل الحقائق الواردة فى الإنجيل الرابع تقريباً ، نجد أنه فيما عدا أحداث أسبوع الآلام ، لا توجد سوى نقطتين فقط من نقاط الالتقاء ، تظهران فيه بوضوح ، هما إشباع الخمسة الآلاف ، والمشي على البحر (يوحنا 6 : 4-21) . أما شفاء ابن خادم الملك (يو 4 : 46-53) فليس هو نفسه شفاء خادم قائد المئة (فى متى ولوقا) ، وحتى إذا افترضنا تطابق الحادثتين ، فيكون هذا هو كل ما عندنا فى الإنجيل الرابع عن أحداث خدمته فى الجليل ، ولكن هناك خدمته الأولي فى اليهودية وفى الجليل التى بدأت قبل أن يلقي يوحنا المعمدان فى السجن (يو3 : 24) وهو ما لا يوجد ما يقابله فى الأناجيل الثلاثة الأخرى . فلا يكرر نقل المعلومات التى يمكن جمعها من الثلاثة الأخرى ، بل يسير على نهج خاص به وينتقى من الأحداث ما يريد ، ويقدمها من وجهة النظر الخاصة للإنجيل ، كما أن له مبدأه الخاص فى هذا الانتقاء أو الاختيار ، وهو المبدأ الذى ذكره فى الفقرة التى سبق أن اقتبسناها . فالمشاهد التى يصورها والأعمال التى يحكى عنها ، والأقوال التى يرويها والتعليقات التى يقدمها الكاتب ، كل هذه موجهة نحو هدف مساعدة القراء على الإيمان بأن يسوع المسيح هو ابن الله ، كما أن الكاتب يقرر أن نتيجة هذا الإيمان هى أن تكون لهم حياة باسمه.
ب – الزمن الذى يغطيه الإنجيل : وعلينا – استرشاداً بالمبدأ الذى ذكرناه – أن نعود للإنجيل ، وأول شيئ يستلفت نظر القارئ هو الزمن القصير الذى تغطيه أو تشغله المشاهد التى يصفها الإنجيل . ولنأخذ ليلة تسليمه ويوم الصلب ، فنجد أن الأمور التى حدثت والأقوال التى قيلت فى ذلك اليوم – من غروب الشمس إلى غروبها (أى يوم كامل) – لا تشغل أقل من سبعة أصحاحات من الإنجيل (من 13-19) . وعلاوة على الأصحاح التكميلي (الأصحاح الحادى والعشرين) ، هناك عشرون أصحاحاً فى الإنجيل تحتوى على 797عدداً ، وهذه الأصحاحات السبعة تحتوى على 257عدداً ، أى أن أكثر من ثلث الإنجيل كله تستغرقه أحداث يوم واحد.
ونعلم مما جاء فى سفر الأعمال ( 1: 3) أن الرب المقام ظل يظهر للتلاميذ مدة أربعين يوماً، ولكن يوحنا لا يسجل كل ما حدث فى أثناء هذه الأيام، بل يسجل فقط ما حدث يوم القيامة ، وما حدث فى يوم آخر بعد ذلك بثمانية أيام ( الأصحاح العشرون) ، أما الأحداث التى سجلت فى الأناجيل الأخرى، فتتوارى كقضية مسلم بها، ولا يسجل سوى الآيات التى حدثت فى هذين اليومين، وهو يسجلها لأن لها أهمية خاصة بالنسبة للهدف الذى كان أمامه، وهو أن يؤمنوا بحقيقة أن يسوع هو المسيح ابن الله. وإن سرنا فى أثر الدليل المقدم لنا فى الإنجيل، فإننا نندهش لقلة الأيام التى تم فيها أى شئ. وعندما نقرأ قصة الإنجيل الرابع نجد كثيراً من الإشارات عن مرور الوقت، وعبارات كثيرة دقيقة عن التواريخ، ونعلم من الإنجيل أن خدمة يسوع قد استغرقت – على الأرجح – ثلاث سنوات، ونستنتج هذا من عدد الأعياد التى حضرها فى أورشليم ، كما أن لدينا بعض ملحوظات عن الوقت الذى قضاه فى السفرات، ولكن ليس لدينا معلومات عما حدث فى أثنائها ، وقلما تذكر الأيام التى حدث فيها أي شئ، أو قيل فيها أي حديث. ولكنه يذكر لنا بكل دقة أنه: " قبل الفصح بستة أيام أتى يسوع إلى بيت عنيا حيث كان لعازر" ( يو12: 1)، وبالنظر إلى هذه الأيام الستة لا يحدثنا إلا عن العشاء وعن حادثة دهن مريم لقدمي يسوع بالطيب، والدخول إلى أورشليم وزيارة اليونانيين، وعن وقع هذه الزيارة عند يسوع . كما أننا نرى ما انطبع فى فكر البشير عن عدم إيمان اليهود ، ولكنا لا نعرف ما هو أكثر من ذلك . ونحن نعلم أن أموراً كثيرة جداً قد حدثت فى تلك الأيام ، ولكنها لم تسجل فى هذا الإنجيل . ولم يسجل لنا شيئاً عن اليومين اللذين مكثهما فى الموضع الذى كان فيه عندما بلغه خبر مرض لعازر ، وقصة إقامة لعازر هى قصة يوم واحد (الأصحاح الحادى عشر). والأمر كذلك أيضاً مع قصة شفاء الأعمى ، فقد تم الشفاء فى يوم ما ، وما ثار من جدل حول أهمية ذلك الشفاء ، هو كل ما سجله عن يوم آخر (الأصحاح التاسع) . وما يسجله فى الأصحاح العاشر هو قصة يومين . وقصة الأصحاحين السابع والثامن – ويقطعهما الحاد4 العرضي عن المرأة التى أمسكت فى ذات الفعل – هى قصة لا تستغرق أكثر من يومين . وقصة إطعام الخمسة الآلاف والحديث الذى أعقبها (الأصحاح السادس) هى قصة يومين أيضاً . وليس من الضروري الدخول فى تفصيلات أكثر ، ومع هذا فإن الكاتب – كما لاحظنا - دقيق جداً فى ملحوظاته عن الوقت ، فهو يلاحظ الأيام ، وعدد الأيام التى يتم فيها عمل ما ، أو التى قيل فيها حديث ما . ونحن نذكر هذه الملحوظات التى قد تكون جلية أمام كل قارئ يهتم بها ، نذكرها أساساً بهدف إثبات أن الإنجيل – بكل وضوح وجلاء – لا يقصد ولم يقصد مطلقاً أن يقدم قصة كاملة عن حياة المسيح وأعماله . وهو يقدم لنا – على أكثر تقدير – معلومات عن عشرين يوماً من بين أكثر من ألف يوم هى مدة خدمة الرب . وهذا وحده كاف لنقض فكرة الذين يتناولون الإنجيل الرابع ، كما لو كان مقصوداً منه أن يحذف أو يكمل أو يصحح الروايات المذكورة فى الأناجيل الثلاثة الأخرى ، فواضح تماماً أن هذا الإنجيل لم يكتب لهذا الغرض .
ج-سجل شخصي : يذكر الإنجيل بكل وضوح أنه استرجاع لذكريات الماضي ، لشخص كانت له صلة شخصية بالخدمة التى يصفها ، فالنغمة الشخصية واضحة فى الإنجيل من بدايته إلى نهايته ، فهي موجودة حتى فى المقدمة لأنه فى الآية التى يعلن فيها الحقيقة العظمى عن التجسد ، يستخدم الصيغة الشخصية "رأينا (نحن) مجده" (يو 1 : 14) ، ويمكن اعتبار هذا الفكرة الأساسية للإنجيل كله . وفى كل المشاهد الواردة فى الإنجيل يعتقد الكاتب أن فى جميعها أظهر يسوع مجده وعمَّق إيمان تلاميذه . فلو سألنا يوحنا : متى عاين مجد الكلمة المتجسد ؟ لكان جوابه : فى كل المشاهد الموصوفة فى الإنجيل . فإذا قرأنا الإنجيل من وجهة النظر هذه ، نجد أن الكاتب كان له مفهوم عن مجد "الكلمة" المتجسد يختلف تماماً عن المفهوم الذى ينسبه إليه النقاد . إنه يرى مجد "الكلمة" فى حقيقة أنه "تعب" من السفر (يو4 : 6) ، وفى أنه صنع من التفل طيناً وطلي به عيني الأعمى (يو9 : 6) ، وفى أنه بكى عند قبر لعازر (يو 11 : 35)، وفى أنه انزعج فى نفسه (يو 11 : 38) ، وأنه يمكنه أن يكتئب ويحزن حزناً لا يعبر عنه كما حدث بعد مقابلته لليونانيين (يو12 : 27) . لذلك فهو يسجل كل هذه الأشياء ، لأنه يعتقد أنها متناغمة مع مجد الكلمة المتجسد . إن التفسير السليم لا يمكن أن يتجاهل هذه الأمور ، بل يجب أن يعتبرها جزءاً من مجد الكلمة المعلن.
فالإنجيل إذاً بكل وضوح هو ذكريات شاهد عيان ، ذكريات شخص كان موجوداً بنفسه فى كل المشاهد التى يصفها ، ولا شك أن هذه الذكريات كثيراً ما كانت تجعله يتأمل فى معنى ودلالة ما يصفه ، فكثيراً ما كان يتوقف ليقول كيف أن التلاميذ – وهو واحد منهم – لم يفهموا فى ذلك الوقت معنى بعض الأقوال ، أو دلالة بعض الأعمال التى عملها يسوع (يو 2 : 22 ، 12 : 16.. إلخ) . وفى بعض الأحيان لا نكاد نميز بين كلمات السيد وبين تعليقات يوحنا ، ولكننا أيضاً كثيراُ ما نقابل نفس الظاهرة فى الكتابات الأخرى ، ففى الرسالة إلى أهل غلاطية ، مثلاً يكتب بولس عما واجه به بطرس فى أنطاكية : "… إن كنت وأنت يهودى تعيش أممياً لا يهودياً فلماذا تلزم الأمم أن يتهودوا" (غل 2 : 14) ، وبعدها بقليل ينتقل إلى التعليق على الموقف . ويستحيل علينا أن نحدد أين ينتهى الحديث المباشر ، ومتى يبدأ التعليق . وهكذا الأمر فى الإنجيل الرابع ، ففي الكثير من الحالات ، يستحيل علينا أن نقول أين تنتهى كلمات يسوع وأين تبدأ تعليقات الكاتب . وهذا ما نراه – على سبيل المثال – فى الحديث عن شهادة المعمدان فى الأصحاح الثالث . فلعل كلمات المعمدان تنتهى بالعبارة : "ينبغـى أن ذلك يزيـد وأنـي أنا أنقص" (يو 3 : 30) ، أما ما بعدها فقد يكون تعليق الكاتب على الموضوع .
د – ذكريات شاهد عيان : "هكذا نجد أن الإنجيل هو ذكريات شاهد عيان للأحداث الماضية مع انطباعاته عن معنى ما مر به من اختبارات . لقد كان موجوداً فى المشاهد التى يصفها . لقد كان موجوداً فى دار رئيس الكهنة" ، وكان حاضراً عند الصليب ويشهد بحقيقة موت يسوع (يو 18 : 15 ، 19 : 35) . وإذ نقرأ الإنجيل نلاحظ مقدار التأكيد الذى يضعه على كلمة "يشهد" ومشتقاتها ، فهو يستخدم هذه الكلمة كثيراً (يو 1 : 19و8و7 ، 3 : 33و26و11 ، 5 : 31 ، 12 : 17 ، 21 : 24 … إلخ) ، وهو يستخدمها هكذا لتأكيد الحقائق التى عاينها . وفى هذه الشهادات نجد ربطاً غير عادي بين فكر رفيع وقوة ملاحظة دقيقة . ففى وقت واحد ، يحلق البشير عالياً من عالم روحى ويتحرك فى يسر وسهولة بين أثمن وأسمى عناصر الاختبار الروحي ، مستخدماً كلمات عادية ، ولكنه يضمنها أعمق المعاني عن الإنسان والعالم ، مما لم يخطر من قبل فى فكر إنسان . وتجتمع فى كتاباته العجيبة أسمى درجات التصوف مع الإدراك العملي المفتوح العينين . وفوق كل شيء تدهشنا روعة إحساسه بالقيمة العظمي للجانب التاريخي ، فكل معانيه الروحية لها أساس تاريخي ، وهذا واضح فى رسالته الأولي وضوحه فى الإنجيل ، حيث نراه رائعاً جلياً . وبينما كان اهتمامه الأصيل أن يشد انتباه قارئيه إلى يسوع وعمله وكلمته ، فإنه – دون قصد – سجل تاريخ حياته الروحية ، وشيئاً فشيئاً ونحن نطالع الإنجيل مندمجين فى روحه ، نجد أننا نسير فى موكب نهضة روحية عظيمة ونتابع نمو الإيمان والمحبة فى حياة الكاتب ، إلى أن تصبح هذه هى النغمة السائدة فى حياته كلها . فمن ناحية نجد أن الكتاب رؤية موضوعية عظيمة عن حياة فريدة ، وقصة إعلان ابن الله لشخصه، وإعلان الآب فى يسوع المسيح ، إلى أن تصل إلى غايتها عبر التطورات المتضاربة من الإيمان والشك عند الذين قبلوه وعند الذين رفضوه . ومن الناحية الأخرى نجد فيه عنصراً ذاتياً فى قلب الكاتب ، حيث يخبرنا كيف بدأ الإيمان وكيف نما وتقدم حتى وصل إلى معرفة ابن الله . إننا نستطيع أن نستجلي الأزمات المتنوعة التى اجتاز فيها ، والتى عن طريقها – وهو يجتازها على التوالي – حصل على اليقين الذى يعبر عنه بمثل هذا الهدوء ، فهي التى أمدته بالمفتاح الذى به استطاع أن يكشف عن سر اعلانات يسوع للعالم . إن انتصار الإيمان الذى يرسمه لنا ، قد اختبره فى داخل نفسه أولاً ، وهو ما تتضمنه تلك العبارة الرائعة ذات الدلالة العميقة : "رأينا مجده" (يو 1 : 14).
هـ – إيضاح لذكريات الماضي : ويتأكد الإنجيل تأكيداً قاطعاً ، بالتأمل فى طبيعة "التذكر" بوجه عام ، فالقاعدة العامة للتذكر هى أننا عندما نتذكر شيئاً ما أو حادثاً ما ، فإننا نتذكره بكل كلياته مع كل الملابسات المصاحبة له ، وعندما نخبر الآخرين به ، فعلينا أن نختار ما يلزم لتوضيح المعنى الذى نريده . والطبائع غير الفنية ليس لها القدرة على الاختيار ، بل تصب كل ما يخطر على البال (كما يقول شكسبير) . إن أروع خصائص التذكر نجدها بوفرة فى الإنجيل الرابع ، وهى تقدم لنا برهاناً قائماً بذاته على أنه بقلم شاهد عيان . ولا يتسع المجال أمامنا هنا إلا لذكر أمثلة قليلة . لاحظ أولاً تلك الملحوظات الدقيقة عن الوقت فى الأصحاح الأول ، والملحوظات الخاصة عن كل شخصية من التلاميذ الستة الذين قابلهم يسوع فى الأيام الأربعة الأولي من خدمته . ولاحظ الصورة التى يسجلها من أن نثنائيل كان تحت التينة (1 : 50) ، ثم ملحوظة وجود أجران الماء الستة فى قانا الجليل حسب عادة اليهود فى التطهير (يو 2 : 6) . ويمكن أن نشير فى هذا الخصوص إلى الملحوظات الجغرافية التى وردت كثيراً فى سياق القصة ، والتى تبين معرفة وثيقة بفلسطين ، وإلى الإشارات العديدة للنواميس والعادات والمعتقدات والاحتفالات الدينية اليهودية ، والتى يعترف الجميع الآن أنها تدل على دقة الكاتب وتصويره الرائع للأحداث . إن هدفنا الرئيسي هو أن نسترعى الانتباه إلى تلك الأمور العرضية التى ليست لها أهمية رمزية ، ولكنها سجلت لأنها من الملابسات التى تداعت فى الفكر عند تذكر الحادث الرئيسي . وهو يرى أيضاً "الغلام" صاحب الأرغفة الخمسة من الشعير والسمكتين (يو 6 : 9) ، ويتذكر أن مريم جلست فى البيت بينما هرعت مرثا لتقابل الرب عندما اقترب من بيت عنيا (يو 11 : 20) ، ويذكر لعازر وهو يخرج مربوط اليدين والرجلين بأكفان القبر (11 : 44) ، وترتسم أمامه صورة حية لحادثة غسل أرجل التلاميذ (13 : 1-5) ، وكذلك التصرفات والأقوال التى صدرت عن التلاميذ فى تلك الليلة المليئة بالأحداث . وهو مازال يرى مسلك الجند الذين جاءوا للقبض على يسوع (18 : 3-8) ، ويتذكر سيف بطرس وهو يلمع فى الظلام (18 : 10) ، ومشاركة نيقوديموس فى دفن يسوع ، وأنواع وأوزان الحنوط التى أحضرها لتحنيط الجسد ( 19 : 38-40) . ويتحدث عن العناية الواضحة فى طي الثياب الكتانية ، وكيف كانت موضوعة فى القبر الفارغ (20 : 4-8) . هذه بعض اللمسات الحية فى هذه الذكريات ، والتى لا يستطيع أن يذكرها بهذه الدقة والروعة إلا شاهد عيان ، وإذ يلقى البشير نظرة إلى الوراء ، يذكر المشاهد المتنوعة ، وكلمات السيد بكل كمالها كما حدثت ، ويختار تلك اللمسات الحية التى تحمل علامة الصدق لكل القراء.
و – نتائج : هذه اللمسات من الواقع الحى تبرر القول بأن كاتب هذا الإنجيل يصور المشاهد من واقع الحياة ، وليس من خياله . وهو إذ يلقي نظرة على تاريخه الروحي الشخصي ، يتذكر بصورة خاصة تلك الكلمات والأعمال التى قام بها المسيح والتى حددت مسار حياته الخاصة وقادته إلى يقين الإيمان الكامل ومعرفة ابن الله . ويمكن فهم الإنجيل من وجهة النظر هذه ، ويبدو لنا أنه لا يمكن فهمه عن أى طريق آخر دون تجاهل كل الظواهر التى أشرنا اليها على سبيل المثال . وعندما ننظر إلى الإنجيل من وجهة النظر هذه ، نستطيع إهمال الكثير من المناقشات المستفيضة حول احتمال تغير موضع بعض الأصحاحات (كما يزعم سبيتا وآخرون) . وعلى سبيل المثال ، لقد ذُكر الكثير عن الانتقال الفجائي فى المشهد من الجليل إلى اليهودية عندما ننتقل من الأصحاح الرابع إلى الأصحاح الخامس ، والانتقال الفجائي المماثل فى العودة إلى الجليل (يو 6 : 1) ، وقد وضع الكثير من المقترحات ، ولكنها كلها تنبع من افتراض أن تذكر الأحداث الماضية يجب أن يكون متصلاً ، وهو غير الواقع . وبينما يحتمل جداً أنه كان هناك تتابع فى ذهن الكاتب ، ولكن هذا لا يضطرنا إلى التفكير فى تغير موضع بعض الأصحاحات ، وإذ نأخذها كما هى فى الإنجيل، فإن الأدلة المختارة – سواء حدثت فى اليهودية أو فى الجليل – تشير فى كل الأحوال إلى نوع من التقدم . وهى – من ناحية – تعبَّر عن مجد يسوع الظاهر ، ومن الناحية الأخرى ، عن نمو الإيمان وتطور عدم الإيمان . وهذا يفتح أمامنا مجالاً جديداً للاعتراض والتساؤل ، وهو ما سنتناوله الآن :
تعليق