[size=4]حوار مع يسوع[/size]
اجتزت باب الكنيسة الرئيس الذي تعودتُ أن أسند راحة كف يدي اليسرى على وجهها عندما آتي كل يوم أحد الى هذا المكان ، ثم أجمع قوتي لأدفعها قليلا بكلتا يديَّ ، ملقيا بثقل جسمي عليها ، لضخامتها وارتفاعها ، من أجل أن أجعلها تتحرك من موضعها وتنفتح صانعة لي شقا بين دفتيها يوازي في ارتفاعه ارتفاعها ، فأعمد الى أن ينزلق جسدي عبر ذلك الشق لانجح في اجتيازها الى داخل فضاء كنيستي ، لأداء صلاتي في هذا المكان الملتصق وجوده دائما بشغاف القلب . لكني عجزت عن فعل كل ذلك اليوم . فنفس تلك الباب كانت مختلفة كثيرا عن آخر مرة لمستها فيها . لقد تحول هيكلها المعدني السميك الى صفائح معوجة متطايرة هنا وهناك تدوسها الأقدام أثناء محاولتها المستميتة في أيجاد طريق لها عبر كل ذلك الحطام . أما زخارفها وأعمدتها التي تنتهي بأشكال كمثرية فقد أضحت قضباناً مشوهة معوجة غادرها لون طلائها الاسود اللامع دائما تحت وهج الشمس ، كأنها يد ساحر شرير قد أزالها عنوة ، ليعلو سطح ذلك الباب بدلا منه طبقة مفتتة من صدأ قبيح المنظر لم تألفه عيناي ، حوّلها الى باب صنعت لا لتفتح مؤدية الى فضاء كنيسة ، بل هي فتحة مشوهة تتخلل سطح الهواء تقود العابر لها الى الجحيم . وقد مرت عليها ملايين السنين من النسيان والألم منذ آخر مرة ابتعدت فيها دفتاها عن بعضهما البعض .
أما فسيفساء زجاج أبواب الكنيسة الداخلية والخارجية الملون الذي كان يرسم عشرات الأشكال من قوس قزح بعد أن تُهديه الشمس خصلة من أشعتها ، قد ثناثر اليوم الى آلاف القطع المتكسرة ، كأنها دموع امرأة منحنية الظهر تركها الأصحاب والأحبة ، سالت فوق أديم الفضاء .
اجتزت كل ذلك الحطام المشوّه وتركته خلفي ودخلت ، لأجد نفسي وسط باحة كنيسة قد تهدم كل شيء داخلها بعد أن هزتها أمس سلسلة من انفجارات ، آتية من عوالم خوف مجهولة ، ليس لانسان عادي القدرة على تقبل ما آل اليه حال ذلك المكان ، بكل ما يحويه من قطع أثاثه ، وكتبه المقدسة ، ولوحاته الفنية ، وأدواته الموسيقية . فالداخل اليه يمكن له أن يشاهد كراسيه الخشبية وقد تفتت أوصالها في كل مكان على أرضية الكنيسة ، ورائحة دخان حرائق منطفئة يعبق بفراغ أخلاه الانفجار من كل شيء مما جعله عالما ضائعا لا يمت الى الحياة بصلة ، موغل في غرابته وكآبته .
أما فتحات الكنيسة الجميلة التي تتوسط جدرانها والتي كانت تُعرف بالماضي بالشبابيك هي اليوم شقوق خالية من زجاجها ، ترسم بقاياها فجوات وجروح في جسد الجدران الحجرية ، والريح الدائمة الهبوب عبرها تؤدي الى تطاير آلاف الجزيئات من رماد اصطبغ بلون السواد يتحرك دون انقطاع من موضع الى آخر في فراغ الهواء ، يهبط تارة ويرتفع تارة أُخرى ليملأ فضاء السقف كله .
كان مشهد الأسلاك الكهربائية المحترقة ، والمقابس المشوهة عيون قافزة من جوف محاجرها بعد اقتلاعها ، يرسم لوحة سريالية يحاول الناظر اليها جاهدا إعادة ترتيبها في خياله ليستطيع أن يفهم ماذا جرى قبل ساعات . أيمكن لمكان رائع بكل ما يضمه من وحدات زخرفية بديعة ، وعناصر معمارية متناسقة ، وأشكال محببة لعيون زائريه ، تآلفت مع أرواحهم وتآلفت أرواحهم معها ، أن يتحول في غمضة عين الى … فحم . ولكنه يظل عاجزا عن فهم وادراك كيف يموت كل ما يختلج في وجدان الانسان ، خاصة عندما يجد كتب كنيسته المقدسة وقد تحولت الى عصافة تذروها الرياح ، ما زالت حافات أوراقها المتفحمة تبدو وكأنها رسمت بحبر أسود داخل فراغ المشهد في كل مرة يندفع الهواء باتجاهها حتى تصير … أثر بعد عين .
رفعت رأسي ناظرا نحو الأعلى مستطلعا زوايا سقف كنيستي وانحنائاته محاولا تتبع حركة تلك الجزيئات وهي ترتفع ببطئ لأجد منظرا حزينا شديد الألم ، ففي زاوية عالية بعيدة لفجوة شباك ، كانت هناك حمامة ما تزال واقفة على نتوء حجارة مهدمة برزت وسط الجدار الأسود ، اتخذتها موطنا مؤقتا لها ، وقد تناثرت حولها ، مواد بيتها الأولية التي جمعتها بكل محبة ودفء ، عيدان قش وأشواك ، وكرات صغيرة من قطن ، وأغصان خشبية رفيعة جدا وقصيرة جدا ، وورق شجر يابس تآكلت حافاته ، لتشيده هناك بيتاً محصورا بين اطار شباك الكنيسة وحافة جدارها ، ضامنة بوجوده في ذلك الموضع الحميم ، سلامتها وسلامة أفراخها داخله ، محتمية به من عاديات الزمان لكونه بيتاً شيّد داخل بيت الله ، مما يحول دون اعتداء الآخرين عليه .
لم تمضي لحظات حتى اندفعت الحمامة بجسمها من موضعها المتناهي في ارتفاعه ، قافزة من أعلى حجارة السقف لتحط في موضع فوق ما تبقى من منضدة مركونة وسط جدار مقابل لباب مدخل الكنيسة الرئيس ، تعجبت لطريقة طيرانها الغريبة ، وحركة أطرافها الأمامية المتلاطمة الغير منسجمة مع بعضها البعض . لأكتشف بعد وقوفها هادئة على مسافة ليست بعيدة عني ان ريش احدى جناحيها قد احترق وتلاشى من موضعه حتى ظهر لحم طرفها الأمامي ولم تعد تملك الا جناحا واحداً ، مما أفقدها القدرة على الطيران كبقية أفراد جنسها . ولا تزال بعد وقوفها ساكنة تدير رأسها حول محيط المكان بتوجس وانتباه شديدين ، تحسبا لأي خطر يمكن أن يداهم بقايا مملكتها المهدمة أصلا .
رحت للحظات أتفرس في ما تبقى من تلك المنضدة المستندة بظهرها على الجدار بحافاتها المتآكلة بفعل الحريق الذي شبَّ فيها ، وقد فقدت بريق خشبها المضيئ ، وتحولت الى كومة من خشب يابس قد انتفضت عروقه الميتة متلمسا من خلالها رشفة شهيق لعله يستعيد بواسطتها نبض الحياة الى تلك العروق الميتة .
كانت ثمة شمعة صغيرة بيضاء مشتعلة مركونة على طرف المنضدة البعيد ، يرتجف نورها المضئ ما أن تلامسه نسمة ريح ، قادمة من بين ما تبقى من زجاج الشبابيك المتكسر ، المتحول بدوره الى شظايا حادة مخيفة مغروسة في جسد الجدران المسوّدة ، المحيطة بالمكان من كل اتجاه . وقد انتصبت باتضاع منيرة ظلمة المكان البارد .
اقتربت من مكان الضوء ، حريصا بدوري على عدم الاتيان بأية حركة تتسبب في زرع الخوف في روح هذا الطائر المسكين ، الذي حرص على أن يواجه نار الشمعة بطرفه العلوي المنزوع الريش لعله يدفئ لحمه العاري .
وقفت أمام الشمعة ورفعت بصري زاحفا نحو لوحة معلقة خلفها . انها لوحة الصلب . حيث الصليب الخشبي مزروعاً في الأرض ، شامخا بقوة ليظهر جسد يسوع كشجرة مغروسة ممتدا بين الأرض والسماء . وبدا رأسه كعادته مكللا بتاج الشوك . تمعنت قليلا في اكليل العذاب ذاك ، فهالني ان بعض الشوك ، الذي كان قبلا حجارة في بيت الحمامة ، قد اندفع بفعل قوة الانفجار الهائل الى داخل اللوحة ، والتصق حول رأس يسوع في موضع اكليل الشوك .
تعليق