إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

ليلة الترانيم

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • ليلة الترانيم

    ليلة الترانيم
    سحر نعيم فتحي


    عاد غاضبا الى بيته، كان غضبه في تلك الليلة بركاناً يغلي داخل صدره، مسبباً له ألماً يخترق جسده حتى العظم. كأن روحه ليلتها تتوسل الى الشيطان أن يتجسد ليعينها على ما هي مقدمة على فعله.

    لقد كان عائدا للتو من حفلته الموسيقية السنوية، الذي عزف فيها أفخر مقطوعاته الموسيقية التي رغم قيامه بعزفها في كل حفلة فلا يمل الناس سماعها بل يطلبون منه المزيد دائما، في عديد حفلاته التي كانت تُقام في أرقى المسارح العالمية. أما اسطواناته فمهما ارتفع ثمنها فهي مُباعة، قبل وصولها الى الأسواق واحتلالها لرفوف العرض فيها. كانت الليلة التي يعتلي المسرح فيها ملحناً وعازفاً تمتلئ القاعة فيها عن بكرة أبيها.

    أما ذلك الناكر لجميله فقد كان مجرد صبيا صغيرا لمس لديه حب الموسيقى فيما مضى فأحتضنه ودربه، ولكنه يقف له اليوم منافسا، متجرئاً على صعود المسرح قبله، وكل ذلك لا يهم بالنسبة اليه، ولكن أن يدخل في منافسة تجارية معه، وينجح في الاستحواذ على أكبر شركات توزيع وانتاج الاسطوانات والأشرطة الموسيقية، والذي كان هو من يروم ضمها الى امبراطوريته المؤلفة من شركات وأعمال تجارية لا حدود لها، فذلك هو المستحيل بعينه.

    لم يطبق له جفن في تلك الليلة ولم يهدأ له بال، حاول النوم جاهداً دون غاية تُرتجى كأن فراشه الوثير قد تحول الى الجحيم بعينه.

    ترك سريره وخرج بعد انتصاف الليل بساعتين، يتمشى في حديقة قصره المترامية الأطراف، الممتدة في اتساعها الى عدة كيلومترات مربعة، وقف للحظة وأجال بصره في ما هو كائن أمامه، فهناك الأشجار العالية التي غُرست في جميع جوانب حديقة قصره لتحجب عيون المتطفلين والسُرّاق عنه، وخلف الأشجار علت أسوار عالية تلقي بكل من يحاول أن يقترب منها الى التهلكة، أما من يحاول اجتيازها من دون اذن منه فمصيره الموت لا محالة، فحجارة أسوار قصره تلك متشابكة بطريقة خفية مع اسلاك كهربائية قاتلة تمتد عبر فرغاتها المتناهية في صغر حجمها.

    اتجه الى ركنه المفضل الذي اعتاد الجلوس فيه لتناول كأساً من الخمر كلما أثقل على قلبه شعوره بالوحدة التي كثيرا ما كان يشعر بها في حياته. تلك الحياة التي خاض غمارها من دون راحة أو صديق. انه لا يثق بأحد ليلجأ اليه وقت حاجته. وتعوّد الشعور بمرارة شديدة عندما يتحدث أحدهم أمامه عن الحب والاخلاص والشعور بالسلام الذي كثيرا ما تمنى لو أحاط بروحه يوماً واحداً فقط، حتى لو كانت تلك الاحاطة عن طريق الخطأ. ولكنه اليوم كان يشعر بوحدة قاتلة وبكراهية عميقة أخذت تتفجر في روحه، جارفة معها كل ما موجود حوله من أُناس وأشخاص ومعارف وشهرة ومال ومجد. انه لا يصدقهم ولا يحبهم، بل يعدهم في أحيان كثيرة خُدّاماً له ولراحته ولكل ما يسعى الى تحقيقه.

    نظر الى مسدسه المحشو باطلاقاته الموضوع أمامه فوق منضدة صُنعت من الذهب. لقد قرر أن يقتله، ذلك الخائن الذي نسيَّ بأنه هو الذي صنعه، وهو الذي منحه الفرصة لكي يعيش على وجه هذه الأرض ويعزف ويبدع ويتألق، وقد تناسى ذلك العاصي بعدها من كان سببا في وجوده كما هو عليه حاله اليوم. وبما انه هو الذي صنعه، فهو الذي سيضع حدا لما صنعت يداه. لقد قرر قتله!!

    كان مستمرا في الكلام مع نفسه غارقا في لُُجج أفكاره، وفجأة … أرهف السمع بانتباه شديد، هناك حركة غريبة بين أشجار حديقته العالية قادمة الى سمعه من طرفها البعيد عنه، استغرب متسائلاً: مَنْ ذلك الذي تجرأ ونجح في أن يخترق كل تحصيناته الأمنية ويدخل معتدياً على ممتلكاته الخاصة. شعر بخوف شديد لعل أحدهم قد أرسل اليه قاتلا ليتخلص منه، فعالم الشركات وتجارة الأشرطة والغناء لا يعرف الرحمة. انه يبدو للناس من متع وابتسامات ووجوه باسمة، غير ما هو عليه في حقيقته، فكل تلك الابتسامات تخفي خلف أقنعتها كل شر ومكر وخداع.

    تسلل من مكانه بهدوء وأنزوى خافياً جسده خلف جذع شجرة، مستنداً بوضع يده عليها، متفحصاً ببطئ شديد جذوع الأشجار المنتصبة بكثافة أمامه، ثم تراءى له وجود شبح يتحرك، أطال نظره ثم وقف مبهوتاً فاغراً فاه محدقا بعينيه، هل يعقل ذلك، انه يسوع يصلي في حديقة قصره بلهفة وألم رافعاً تضرعاته الى الآب، والعرق يتصبب من جميع أنحاء جسده، تعلقت عيونه به في استغراب وتلعثم، وقد فتح عينيه على اتساعهما غير مصدق ما رأته عيناه وتصاعد في تلك اللحظة صوت ترنيم ، أو هكذا تراءى له، تقول كلماته …

    آخذاً صورة عبـد صائراً في شبهنا
    هكذا ابن الله أخلى نفسـه من أجلنا
    تاركاً مجد السـماء ساكناً أرض العنا
    واضعاً نفسه طوعاً لفــداء المقتنى

    استدار يسوع فجأة ناظرا اليه، مثبتاً عينيه عليه فتراجع فزعاً مذهولاً، أيعقل ان يسوع يعرفه ويعرف بيته، ولا يدري لماذا شعر وكأن جبلا من الخوف قد جثى فوق روحه في تلك اللحظة، تراجع مسرعاً متجنباً رؤيته، وفي تراجعه المفاجئ ذاك انتزع بقوة راحة يده عن لحاء الشجرة التي كان يستند على جذعها، فخُدش جلد طرف اصبعه وبدأ جرحه ينزف قطرات من الدم، فأسرع بوضعه بين شفتيه ضاغطا عليه بقوة محاولا وقف تدفق الدم، ومقللا قدر استطاعته من حرقة الألم الذي تفجر في طرف ذلك الاصبع. وبعد أن استرد أنفاسه قليلا حاول أن يعود مسرعا الى مكانه، ولكن قدميه تعثرت بجسم غريب، استغرب! فهو يعلم ان أرضية حديقته خالية من أي عائق كان، ومفروشة كلها ببساط من عُشب أخضر.

    نظر الى أسفل محاولا تفادي ما اصطدم به فاذا هم مجموعة من الرجال النائمين، كانوا يلتحفون السماء متكورين على الأرض كلٌ حول جسده. أما الذي تعثر به فقد كان بطرس … ولكنه نجح في اللحظة الأخيرة في أن يتفاداه، ومنع نفسه من السقوط فوقه، ويمكن انه قد يكون سبباً في ايقاظ بقية التلاميذ النائمين معه.

    عاد منهكاً الى مكانه، وبدأ يشعر بخوف غريب، ما هذه الليلة الغريبة … أهذا كله يحدث في أعماق بيته. مرّ وقت ساد فيه الهدوء فشعر بقليل من الراحة …
    رفع كأس الخمر الموضوع أمامه بتأن مقربا إياه من شفتيه، ارتشف رشفة منه وأعاده ببطئ كأنه قد بدأ يتذوق كل قطرة خمر بمفردها. وبدأت ذكريات ماضيه تصحو رويدا رويدا من رقادها، ومرَّ شريط حياته أمام عينيه… كان صغيرا جدا عندما اشترك لأول مرة في دروس الموسيقى وفن العزف والترنيم قدمتها له كنيسة صغيرة قريبة من بيته، وأحب الموسيقى واستوعب دروس الكنيسة وتابعها باستمرار رغم بساطتها الشديدة التي تتناسب وسنه الصغيرة في ذلك الوقت، والتي جميعها قدمت له ولغيره مجاناً، وأصبح عازفا في فريق الترنيم التابع لتلك الكنسية الصغيرة في الحي الذي يسكنه.

    وما هي الا سنتين أو يزيد وكبر الصبي وأصبح شاباً ، ونمت مواهبه في عالم الموسيقى، التي أثارت اعجاب من حوله، كان باستطاعته أن يحول أي حوار يدور بين اثنين يُقال أمامه الى قطعة موسيقية ملحنة. والتحق ذلك الشاب بعدها بأكاديمية الموسيقى في منحة قدمتها له كنيسته. وأنهى دراسته بحصوله على مرتبة الشرف وبتفوق عالٍ جداً، ولكنه لم يعد الى خدمة كنيسته بعد تخرجه، لقد كانت تلك الكنيسة بالنسبة اليه مرحلة طفولة وانتهت، فلا يليق به الآن أن يعزف في كنيسة صغيرة محلية لا يسمعه فيها العالم، وهو الشخص المعروف على مستوى دولي !! وعازفا ومؤلفا لقطع موسيقية فاخرة تُدرس في جميع أنحاء العالم، ولم يستطع أحد بعدها أن يتطاول عليه ويقف أمامه… الا الليلة… ومن ذلك الذي فعلها؟؟ انه تلميذه…

    وأنتبه الى ان قدحه الزجاجي قد تلوث بقطرات دم لا يزال ينزف من جلد إصبعه، انه عاجز عن إخراج تلك الشوكة اللعينة التي انغرست فيه، فهي تسبب له ألما شديداً يكاد يشل احساسه بحركة اصبعه وليس في مقدوره حتى تبينها لصغر حجمها.

    ثم… انتفض جسده من مكانه بقوة بعد أن سمع أزيز منشار كهربائي وهو يقطع أجمل وأكبر شجرة في حديقته الوارفة الظلال، وشعر بخوف وهو يلمح ظلال أجساد لأشخاص غريبين عنه تتحرك على واجهة الجدار المقابل لموضع جلوسه، انهم يصنعون من شجرته الجميلة صليب، وهو قادر على أن يسمعهم يتحدثون فيما بينهم عن حجم ذلك الصليب، والذي كان يجب أن يبلغ، حسب رأيهم، أضعاف حجم الانسان الذي سيصلب عليه.
    أخذ يحدث نفسه : يا ألهي … هل سيصلبون رجلا غريبا في بيتي.
    فأجابه صوت قلبه هامسا:
    - أنسيت كيف قررت قبل لحظات أن تُقدِم على قتل انسان، فلم لا يصلبون ذلك الآخر ؟
    - انه يستحق ذلك، لقد خانني … أنا من صنعته، أنا من وهبته ماله، كان عليه أن يبقى مديوناً لي عمره كله.
    وجاءه صوت قلبه يقول:
    - ومن أدراك ان ذلك المصلوب لا يستحق الصلب.
    فتسلق نظره ببطئ جذع الشجرة الشامخة أمامه الى مركز قبة السماء وتمتم رغماً عنه:
    - ولكنه الوحيد المُجرَّب في كل شيء مثلنا بلا خطية.

    سكن قليلا، ومرت ثواني ، فغادر موضع جلوسه تاركاً كرسيه، وأتجه داخلا الى شرفة قصره لجلب قليلا من الثلج لاضافته الى كأس خمرته الذي أخذ يفقد برودته اللذيذة قليلا، ولكنه عند وصوله الى باب الشرفة أمعن النظر الى مجموعة من المسامير كان قد رآها قبل مغادرته لقصره، موضوعة داخل سلّة من سعف النخيل، رُكنت بكل عناية ملاصقة لباب بيته وقد أُعدت لكي تُغرس صباحا في جدار حديقته الاسمنتي بمثقاب كهربائي عُلِّق بدوره قريبا من تلك السلة، ليُشَدّ عليها بالحبال ساق احدى النباتات المتسلقة بطريقة تمكنها من مد جذعها الضعيف وأوراقها للوصول الى مصدر النور البعيد عنها، وقد رتب مع عامل حديقته الذي كان عليه انجازها تلك المهمة في صباح اليوم التالي، نظر اليها في هذه المرة متفحصاً إياها باستغراب، لقد كانت غارقة في بركة دم متجمع في قعر السلة.

    التفت فجأة نحو الجدار البعيد قرب مدخل قصره منتبهاً الى … يا إلهي … لقد اكتمل بناء الصليب، وغُرِست قاعدته في أديم حديقة قصره … وأصبح من ضخامته وارتفاعه وكأنه واحداً من أشجارها.

    وتعالت أصوات، لقد كان هناك شخص وسط تلك الجموع يضُرب ويُهان ويُجلد، لم يكن باستطاعته أن يتبين ملامحه، ولكن رأى بوضوح اليد الماسكة بالسوط وهي تعلو في وسط الجموع وتهوى عليه. وتباعدت الجموع قليلا ليتبين ان الشخص المتألم هو نفس الانسان الذي كان يصلي في زاوية منزوية من حديقته … انه يسوع، لقد كانوا يسحبونه نحو الصليب مع ضرب مبرح مسلط على كل أنحاء جسده. في تلك اللحظة أوجعته يده من جُرحها فأطبق عليها بقوة بيده الثانية محاولا تخفيف ألمها. وتعالى صوت كلمات مرنمة تقول:
    وهو كالجاني يُساق بعد جلد وازدراء
    ثم مثقوب اليدين دمه الغالي جرا
    غاسلا عنّا الخطايا مانحا مجد الذرى
    في عيون العابرين مستحقا للردى
    وهو مجروح لإثمي قابلا عار الفدى
    شافعاً في من أحبَّ بخلاص للمدى
    وسحبت الجموع ذلك الانسان الجريح المُدمى بين الأشجار رامية بجسده عند قاعدة الصليب.
    وعاد هو مرتمياً على كرسيه متألماً، ولكن في هذه المرة بحزن. لم يكن يعلم لحظتها هل هو الذي صنع ألمه بنفسه، أم ان كل ذلك الألم كان بسبب خيانة تلميذه ذاك حقاً.

    وعُلِّقَ يسوع … وتصاعد صوت مثقاب غارسا مسامير جداره الاسمنتي في موضع وسط قدميه الموضوعتين الواحدة فوق الاخرى، والملتصقتان بدماءهما المتفجرة منهما فوق خشبة الصليب.
    وبدأ نهر دم يروي سواقي حديقة قصره.

    فأطبق براحة يده بقوة على قطرة دم سالت من اصبعه لتستقر في راحة يده. انه خائف. خائف من وحدته وعدم وجود من يحبه لذاته، من دون طمع في ماله أو مركزه.
    وتعالت أصوات ترنيم:
    في مشهد أدمى العيون في ألم لم ينته
    رب السماء قد روى أرضاً طغت من دمه
    أذكر اني يومها شاركت في تسميره
    عيني بعينه التقت رأيت دمعا وقال:
    أحببتكم للمنتهى أحببتكم بلا حدود
    وصيتي " حبوا كما أحببتكم بلا حدود"

    أدار رأسه ناظرا الى مسدسه… أمسك به… قلّبه في راحة يده… أعاده… فشاهده يقطر دماً. ولم يستطع بعدها أن يكابر، فأجهش في بكاء مُر. بكى بكل ما في قلبه من وجع وأحزان وغربة ووحدة.

    ورفع رأسه الى حيث تشمخ أطراف رؤوس أشجار حديقته، يحاول أن يتبين رأس المصلوب، الذي ارتفع عاليا عاليا حتى ظهر له وكأن ارتفاعه بعلو السماء، وتراءى له وكأنه قد عاد صبيا صغيرا يعزف في فريق كنيسته المحلية الصغيرة، وهناك صليب صغير مؤلف من عمودين متصالبين من ضوء أبيض يلمع في السماء ساعة المساء، ويظهر لعينيه فوق قمة تلك الكنيسة الصغيرة وكأنه ملتصق بالسماء، وتمتمت شفتاه وهو يجهش في بكاء كالأطفال :

    يا مَنْ فوق الصليب أمحُ اثمي يا حبيب


    فتعالت نفس كلمات رنّمها ذات يوم بعيد بكل محبة وفرح مع فريق كنيسته المحلية الصغيرة:
    إن تحجب شمسك لن يبقى في الدنيـا ينبـوع دافق
    أنا إن أنكـرتك لم يبقـى فـي عيني نـور بـارق
    فأسكب من روحك كي تلقى روحي فيك الحب الصادق

  • #2
    مشاركة: ليلة الترانيم

    [font=Simplified Arabic]مسا الخير للجميع انا عضو اجديد فى المنتدي لو ممكن تساعدوني فى المنتدي
    وللكم خالص الشكر مني للجميع الموجودين ووالمسؤولين[/font]

    تعليق

    من قاموا بقراءة الموضوع

    تقليص

    الأعضاء اللذين قرأوا هذا الموضوع: 0

      معلومات المنتدى

      تقليص

      من يتصفحون هذا الموضوع

      يوجد حاليا 1 شخص يتصفح هذا الموضوع. (0 عضو و 1 زائر)

        يعمل...
        X