إعـــــــلان

تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.

عطر الوجود

تقليص
X
 
  • تصفية - فلترة
  • الوقت
  • عرض
إلغاء تحديد الكل
مشاركات جديدة

  • عطر الوجود

    عطر الوجود


    كان هناك بقايا ركام لبناء قديم جدا يُحكى انه قد تهدم قبل 100 سنة ، حسب ما يرويه أهل البلدة من أحداث تناقلوها جيلا بعد جيل، بجملٍ تخلو من أي تفاصيل أو وضوح لمرور الأيام عليها والسنين، التي عادة ما تُمحي كل ما يلامس الذاكرة، وتُرك حطام ذلك المبنى في مكانه من دون تعمير كل تلك السنين، ولا يدري أحد لماذا، حتى تحول ركنا منه الى مكب للحجارة ومخلفات البناء، ونمت الحشائش الكثيفة على سطوح حجارة ركنه المقابل، حتى اختفت معالم ما كان تحتها بالكامل، واستعمله الرعاة في رعي أغنامهم . أما في وسط ذلك الركام فقد بدت معالم ساحة سويت أرضيتها بالتراب ، وكان كثيرا ما يتدافع اليها الصبية والشباب لممارسة هوايتهم في لعبة كرة القدم .

    ليس هناك ما يدل على نوع ذلك البناء مطلقا ، وعندما يغادر أي شخص ذلك المكان تاركا إياه، يُخال اليه وكأنه قد قَدِمَ من زمان بعيد موغل في أحداثه، وأنتقل الى زمان آخر هو يومه الحاضر. المتجول بين أطلال ذلك الركام لا يستطيع أن يصطحب معه أو يلتقط منه أي شيء كتذكار أو رمز يحتفظ به، ما عدا شيء واحد يبقى عالقا في روح كل من يزور ذلك المكان، حتى لو نظر اليه من بعيد وهو جالس داخل سيارة مسرعة شاءت الصدفة أن تمر من أمامه وهي تنهب الأرض نهباً، من دون أن ينجح أحدهم في ايقافه أو منع أريجه أو الحد منه على الأقل ، ذلك هو نسمات المكان التي تعبق في كل شارع وبيت ومتنزه وسوق وهي تحمل اريج عطر يفوح في كل لحظة من لحظات الزمن ليستوطن نسيج الهواء وفراغاته . ويتغلغل في روح كل من يتنفسه ليمتلئ بعدها براحة لا أحد يعرف سرها .

    هذا المكان المحطم تفوح من كل حجارة فيه ، ومن كل زاوية من زواياه، ومن كل حصاة تستكين على ترابه، رائحة تُعد الأطيب في هذا الوجود، التي يمكن أن يتنشقها انسان. توصف دائما بالعطر الساحر الذي لا شبيه له. وعجز العلماء في معرفة مصدره ، وتمنى صانعو العطور العثور على موضع مصدره. ولكن … رغم الجهود التي بُذلت في معرفة من أين يضوع كل ذلك العطر، وسط تلك الخرائب، لم يستطيع أحد الوصول الى معرفة سره.

    وفي كثير من الأحيان عندما تهب نسمات هواء عليل قادمة من جهة الركام باتجاه شوارع ودور المدينة، تسارع النساء لجعل جميع أبواب البيوت وشبابيكها مشرّعة لاستقبال تلك الرائحة الحلوة التي لا نضير لها، لتُعطر بأريجها كل بيوت البلدة، وتزيد من فرح الأطفال وتبعث سعادة عجيبة في الأرواح.


    لبى طلاب السنة النهائية في قسم الجغرافية دعوة استاذهم لتوزيع مشاريع تخرجهم، والبدء في تنفيذها. وهي المشاريع المتضمنة الدراسات التي سينجزها طلبة القسم، كما جرت العادة في جميع الأقسام، وكل حسب تخصصه العلمي، وحين انتهاءهم منها سيعمدون الى تقديمها الى رئاسة قسمهم للحصول على درجة البكالوريوس في الجغرافية، كان عنوان الدراسات التي ستُقدَم في هذه السنة هي (ظواهر جغرافية ليس لها تفسير) فكان يتوجب على كل طالب أن يختار موضوعا لظاهرة جغرافية معينة ويجمع حولها كل ما يستطيع من معلومات وبيانات لتحليلها واستنباط الحلول والتفسير لها.

    وبدأ توزيع المشاريع فكان من نصيب خالد استقصاء أسباب ارتفاع وانخفاض مستوى سطح مياه البحيرة الكبيرة التي تقع البلدة على بُعد عشرة كيلومترات منها. أما سامية فستكتب اطروحتها حول بعض الظواهر الغريبة التي بدأت تظهر في تربة مزارع البلدة. واختار يوسف بنفسه مشروعه وهو البحث عن سر تلك الرائحة الطيبة الغريبة التي تفوح من حجارة ركام ذلك المبنى القديم، والتي أصبحت جزء من حياة مدينتهم الصغيرة.

    وقد حرص على دراسة تلك الظاهرة الجغرافية لحبه وتعلقه بذلك المكان الذي كثيرا ما تعود أن يصطحبه والده اليه منذ أن كان طفلا في الرابعة من عمره لينعم بتنشق تلك الرائحة التي تبعث فيضا من السعادة في روحه وقلبه، ويعود الى بيته وكأنه قد ولد من جديد.
    ولكنه بعد اختياره لموضوعه ، طلب منه استاذه في الجغرافية التريث قليلا في هذا الموضوع لصعوبته ، وعدم وجود من كتب عنه قبله، فمن اين سيجد مصادره التي سيعتمدها .
    فقال له يوسف:
    - سأستقصي كافة المعلومات التي تمكنني من الكشف عن سر ذلك المكان، وسأعتمد على المكان نفسه، فأي مكان في الأرض يعد الوثيقة الجغرافية الحقيقية التي يمكن أن أستنبط منها كافة المعلومات التي أحتاجها، وسأجمع حكايات الناس عنه ، وأول شيء ساسعى الى معرفته هو تاريخ المكان وهوية البناء الذي كان شامخا ذات يوم، قبل أن يتحول الى ذلك الركام العَطِر الذي نراه اليوم ، والتعرف على أسباب تحوله ذاك.
    فأجابه استاذه بعد أن اقتنع بأقواله:
    - حسناً يا يوسف ابدأ العمل. وأتمنى لك التوفيق.
    وبدأ يوسف الاعداد لأطروحته التي سمّاها (سر العطر). وكانت خطوته الاولى في بحثه هو الانترنت، وبما انه كان لا يعرف حتى اسم ذلك البناء الذي تحول الى كل هذا الركام، أو طبيعة هويته، فقد بدأ بحثه بتحديد كافة معالم مدينته من العمارات والمباني والجامعات والمدارس والمحلات التجارية القديمة، ووضع جدولا مفصلا بأسمائها ومواقعها الجغرافية وتاريخ بنائها.
    ثم أخذ يقضي وقته كله في مكتبة جامعته للبحث في أرشيف تاريخ المدينة، والاطلاع على أكبر عدد من صورها التاريخية ، وجمع كل ما تقع عليه يده من خرائط قديمة لشوارعها لعله يصل الى هوية ذلك البناء المتحول بين ليلة وضحاها الى ركام.
    وكثيرا ما تساءل بينه وبين نفسه كيف يتحول بناء ضخم بمثل هذه المساحة الى ركام . يا ترى ما الذي حدث في ذلك اليوم البعيد؟

    حرص يوسف خلال شهور بحثه على الذهاب الى موقع ذلك الركام مرتين خلال الاسبوع، حيث يمضي يومه بطوله متجولا حوله لعله يعثر على أثر يقود بحثه الى النهاية ، ويضع جوابا لتساؤلاته عن مصدر تلك الرائحة الزكية التي تعبق بأرجاء المكان، فتسعد الأرواح وتُبهج النفوس.
    وفي احدى المساءات الجميلة، وهو جالس على احدى الصخور واضعا العديد من التساؤلات محاولا ايجاد الجواب لها، اقترب منه ذلك الرجل الطاعن في السن الذي تعود رؤيته وهو يرعى غنمه في ذاك الموضع التي تكثر فيه الحشائش، كما تعود ذلك الرجل المسن على رؤية يوسف وهو يتجول وحيدا وسط تلك الخرائب. اقترب الرجل منه متوكأ على عصاه، ثم احتل له صخرة قبالة يوسف وهَمَّ بالجلوس عليها. ضحك الرجل كاشفا عن فم دون أسنان، وسأل يوسف:
    - ما بك يا ولدي ؟ فكلما أتيتُ الى هذا المكان لأرعى غنمي ، أراك جالسا أو متجولا في زواياه . قل لي ما الذي يشغل بالك لعلي أستطيع أن اساعدك .
    ابتسم يوسف في وجهه وسأله :
    - قل لي يا عم كيف يمكن أن يتحول بناء بهذه المساحة الى حطام. الا تستطيع أن تخمن ماذا حدث.
    فضحك الرجل وأجاب :
    - أنا لا أُخمن ، أنا أعرف بالضبط ما الذي حدث .
    فأتسعت عينا يوسف في دهشة وأجابه:
    - تعرف بالضبط ماذا حدث !! ولماذا لم تخبرني طوال هذه الأيام.
    - لأنك لم تسألني يا ولدي . فأنا أعرف بالضبط ما الذي حدث ، ولكن لا أعرف بالضبط ما الذي تفكر به .
    - آه… صحيح … نعم … نعم . إذن الآن أسألك ماذا حدث بالضبط يا عم .
    - حسنا… سأبلغ من العمر بعد شهرين التسعين عاما، وقد بدأت فصول القصة قبل 80 عاما من يومنا هذا !!
    فهذا الحطام الذي تراه أمامك اليوم خرائبا كان قبلا كنيسة، أكبر كنيسة في البلدة، كنيسة فائقة الجمال عامرة بأهلها، يأتيها الناس من كل مكان للصلاة وتسبيح القدير الذي أوجدنا في برية هذه الحياة. وفي ليلة لا يمكن أن أنساها في حياتي، كان عمري آنذاك عشر سنين عندما اصطحبني والدي في ليلة الميلاد الى الكنيسة ، كانت ممتلئة بالناس عن بكرة أبيها، والزينة تحيط بها من كل جانب ، وجدرانها زينت بإضاءة أحالت سواد الليل الى نهار بهيج، والأجراس تقرع. وكنت كغيري من الصبيان سعيد جدا بليلة العيد لأنني سأستمتع برؤية المغارة والحيوانات التي يضعونها حول مذود فادينا المسيح. وعند دخولنا باب الكنيسة طلب مني والدي أن أسرع بالعودة الى البيت لأجلب له قنينة دواءه الذي نسيَّ أن يجلبها معه وقد حلَّ موعد تناوله له. وكان بيتنا قريب لا يبعد سوى شارعين عن موقع الكنيسة . وقد كنتُ آنذاك صبياً نشيطا وليس كما تراني الآن.
    فضحك يوسف وطبطب براحته على كتفه قائلا:
    - أنت كل الخير والبركة. أكمل قصتك يا عم.
    - ركضت الى البيت بأقصى سرعة لأجلب لأبي دواءه وأحضر قداس الميلاد ، لئلا يفوتني شيء منه. وصلت البيت وما أن اجتزت بابه بخطوة واحدة، حتى دوّى انفجار رهيب هز أركان الأرض والسماوات، بصوت لم نألف سماعه في حياتنا، تطاير كل شيء الى عنان السماء التراب والحجارة و… أجساد الناس. شاهدتُ ، وأنا واقف أمام باب بيتي ، جزء من باب كنيستنا الأبيض الجميل وقد تطاير حطاما، وأندفع بقوة ليرتطم بالشارع المار أمام بيتنا، لقد امتلأت شوارع المدينة وسطوح دورها بالحجارة وحطام الخشب والحديد والأسلاك والرماد و… الدماء.
    في تلك اللحظة شعرت بخوف شديد، وبفزع لم أُحس به طوال حياتي ، رغم كوني ما زلت طفلا صغيرا آنذاك. وتذكرت والدي، وأسرعت أعدو مرة ثانية بأقصى سرعة أستيطعها باتجاه كنيستنا ، من دون أن أجلب قنينة الدواء له نسيتها أنا في هذه المرة.

    وصلت الى مكان الكنيسة التي وقفت أمامها مذهولا ، كانت تختلف اختلافا كبيرا عن ما تركتها عليه قبل لحظات ، لقد تحطم كل شيء فيها، كل شيء. لقد سقط سقفها الجميل بأكمله على رؤوس جميع المصلين داخلها ومات كل من أتى اليها في تلك الليلة … ليلة ميلاد يسوع، وليلة وفاة أكثر من نصف سكان البلدة. وبدأت أبكي وأصرخ وابحث عن والدي، أبي… أبي… أين أنت يا أبي. وأخذت أحاول أن أدخل جسمي الصغير بين الحجارة الكبيرة المتساقطة رغم ان اللهب لا يزال يستعر داخلها، وأخذت أنتحب بشدة، فليس هناك أثر لأبي. وفي ثورة ألمي وصراخي أمسكني أحدهم وأخذ يحاول تهدئتي ، وبت اشعر وهو ممسك بي كأن قلبي الصغير هو الذي يحترق وليس الحجارة التي أمامي ، ولم اعثر على أبي، ولم يعثر أهل البلدة على أي شخص كان داخل الكنيسة في تلك الليلة، لقد احترقوا وتحول قسم كبير منهم الى رماد تطاير مع الريح ، وتفحمت جثث من تبقى حتى أصبح من المستحيل معرفة هوية أية جثة يمكن أن يُعثر عليها بين نفس هذا الركام الذي هو أمامك الآن.
    وتجمع الناس خائفين قرب حطام كنيستنا، انهم لم يشاهدوا في حياتهم شيئا قد حدث في بلدتهم مثل هذا، وإذا بشاب يصيح بالجموع الملتفة لا تدري ماذا تصنع ، دعونا ننسى أوجاعنا ونصلي الى ذلك المبارك الذي ولد في مثل هذه الليلة . وبدأ الناس يصلون ويبكون، والخوف استوطن القلوب التي نسيت فرحة العيد. وعند انتهاء الصلاة بدأ أريج رائحة غريبة لا تُشبه أية رائحة يمكن أن تكون قد تنشقتها في هذا الوجود تضوع من أرجاء المكان ، وكلما حرك أحدهم حجرا زادت وانتشرت أكثر. ونسيَّ الناس أحزانهم وسط دهشتهم وتعجبهم.

    وصلت سيارات الاسعاف والنجدة الى موقع كنيستنا الحلوة، التي تحولت الى نفس هذا الحطام الموجود أمامك اليوم، والذي ما زال كما هو لم يحركه أحد. وبدأت عمليات انتشال الجثث من تحت الركام. فكان كلما قام أحدهم بازاحة قليلا من الحجارة والركام لانتشال جثة ما، تعبق في شوارع ودور البلدة رائحة عطرة لا مثيل لها في أرجاء هذا الكون. ولم تغب هذه الرائحة أو تنطفئ أبدا منذ لحظة انتهاء الصلاة في ذلك اليوم البعيد الذي فُجّرت فيه كنيسة بلدتنا الجميلة الى يومنا هذا. وكلما تنفستها اليوم أتذكر أبي وكلمات مرنم تقول: « كرائحة الطيب اسم يسوع وأنفاسه جوهر الناردين » .
    فهمس يوسف بعد أن أكمل الرجل قصته قائلا:
    - الآن عرفت الجواب. شكرا لك يا عم ، ألف شكر.

    أسرع يوسف الى أوراقه ليدون الاستنتاج الذي أوصله الى نهاية مشروع اطروحته. تناول قلمه وكتب:

    تعطرت الحجارة بحضور يسوع
    وتعطر التراب عندما داس عليه يسوع
    وتعطر الهواء عندما تنفسه يسوع
    وتعطر الوجود كله بوجود يسوع

  • #2
    مشاركة: عطر الوجود

    شكرا لك اختي المحبوبة سحر على القصة الجميلة .
    ربنا يسوع يحول الركام الى بناء ويحول الظلام الى نور .

    الرب يبارك حياتك

    تعليق

    من قاموا بقراءة الموضوع

    تقليص

    الأعضاء اللذين قرأوا هذا الموضوع: 0

      معلومات المنتدى

      تقليص

      من يتصفحون هذا الموضوع

      يوجد حاليا 1 شخص يتصفح هذا الموضوع. (0 عضو و 1 زائر)

        يعمل...
        X