بستان الورد
أخذ الرجل العجوز ضيفه الشاب متجولا به في أنحاء مستشفى (فاقدي نعمة البصر) ممهداً لتسلمه مهام عمله الجديد مديرا للمستشفى ، بدلاً من مديرها السابق ، مضيفه ، الذي أُحيل على التقاعد .
كان الوقت شتاءً جميلا والشمس ترسم بأشعة فنان مبدع ألوانها على الجدران البيضاء ، عاكسة أشكال منحنيات نوافذها ، ظلالا فنية محببة للناظر اليها ، باعثة في روحه دفقة من الشعور بالراحة والبهجة غير المنظورة .
أبعد الضيف قدح الشاي الساخن عن شفتيه ، بعد أن رشف منه قطرات ، ونظر الى مضيفه قائلا :
والآن أرجوك أن تخبرني كل شيء ، خاصة سر تلك الرائحة الساحرة التي تضوع من أرجاء المكان ، وسر الزهور الحمراء صغيرة الحجم ذو التويجات الرقيقة المحيطة ببعضها البعض ، المنطبعة أشكالها بالملايين على سطوح الصخور والحصى المتناثر حول مبنى المستشفى . حتى ليخال المرء انها حقيقة فيندفع لملامستها ليكتشف انها رسم أجادَ فنان ما نقشها وتوزيع ألوانها .
نظر اليه مضيفه قائلا : ان لها أغرب قصة عشتها في حياتي . فعندما كنت في عمرك عُينت أنا أيضا لأول مرة رئيسا للأطباء في هذه المستشفى . حيث بُنيت كما هو حالها عليه اليوم ، في مكان ناء عن المدينة ، تحيط بها أرض فسيحة خالية من أي عائق طبيعي لحاجة نزلاء المستشفى الى التجول دون وجود حواجز أو أشجار يمكن أن تعيق أو تحد من سيرهم ، وتسبب لهم الأذى دون أن يدروا ، كما كنّا نهدف من وراء ذلك تعليمهم التآلف مع حواجز الظلام الذي سيرافقهم طوال سني حياتهم ، دون ان يشعروا بالخوف أو باحتمال الاصطدام بشيء ما موضوع أمامهم .
كانت المستشفى تضم جناحين واحد للنساء وآخر للرجال ، وكان في كلا الجناحين أطفالا وشبابا وشابات ورجالا ونساء من جميع الأعمار ، والذي يجمع بينهم جميعهم انهم فاقدون لنعمة بصرهم . وقد تآلف كثير من هؤلاء مع حالتهم ، وكان دور المستشفى هو أما إجراء العمليات الجراحية التي يمكن أن تعيد بصيصا من النور لعيون من فقد ضوئها منذ ولادته ، أو لتخفيف الشعور بالألم النفسي أو الجسدي عند بعضهم الآخر ، خاصة هؤلاء الذين أصابهم العمى إثر حادث مؤلم قد مرَّ بهم في حياتهم . فهناك شاب كان مخمورا ذات ليلة وصدم بقوة سيارته بجذع شجرة ، حيث أدى اصطدام رأسه في الزجاج الأمامي لسيارته الى انطفاء نور عينيه . وهناك رجلا آخر كان عضوا في عصابة تقاتل مرة بالسكاكين مع عضو آخر في عصابته فاقتلع الأخير عيون صاحبنا بضربة سكين .
كانت المستشفى تعيش حياتها الروتينية ، الا في ذاك الصباح الجميل ، حيث خرجت من مكتبي ناظرا الى فسحة الأرض المقابلة لواجهة المستشفى ، وقد تفتحت لأول مرة بين صخورها وحصواتها وروداً صغيرة الحجم ذات لون أحمر قان ، لم أرى شبيها لها في حياتي ، ولم يكن لها أصلاً وجود في هذه المنطقة . الذي لفت انتباهي في بادئ الأمر ليس وجود الورود ولكن رائحتها التي قادتني الى مكان تفتحها . فان هواء المستشفى ، في ذلك الصباح ، وجميع الأراضي الخالية المحيطة بها أخذت تتشبع برائحة تضوع حتى من بين حبات الطين والرمل المفروشة على الأرض . في أول يوم تعجبنا جميعنا من سِحْر هذه الرائحة ، حتى المرضى جاءوا يسألونني : دكتور ما مصدر هذه الرائحة الطيبة ، نحن لم نألف وجودها في مستشفانا ولم نشم مثيلا لها في حياتنا . وكنتُ أُجيبهم : انه نوع من الورد لا شبيه له أخذ ينمو حول المستشفى وهذه هي رائحته .
وأصبح حديث الورد وأنواع الورد ورائحة الورد التي تملأ بأريجها المكان ، على كل شفة ولسان ، وأصبح الشغل الشاغل لنزلاء المستشفى . وكنتُ أُشجعهم على ذلك ، حيث ان مثل هذه الظاهرة تنمي أحاسيسهم الأُخرى ، وتساعدهم على التفاعل مع عناصر المكان الذي يعيشون داخل محيطه ، لكونهم فاقدين لنعمة بصرهم .
وأخذ الورد بمرور الأيام ينمو ويتفتح ، حتى غلف جميع الأراضي الخالية المحيطة بمبنى المستشفى ، مما منحها صورة خيالية جميلة لا يمكنك تصورها . وكان بإمكان من يأتي من مسافة عدة كيلومترات في سيارته أن يشاهد بساطا مخمليا من اللون الأحمر ، ويشم رائحة ليس لها مثيل تضوع في أرجاء الوجود .
وذات يوم جاءني شاب غريب عن المنطقة لم أشاهده قبلاً ، طلب مني أن يعمل في (بستان الورد) تلك التسمية التي أطلقها المرضى على تجمعات الورد هذه . وافقته وعينته بستانيا في (بستان الورد) ، خاصة وهو يتمتع بميزة لا يتمتع بها أحد من نزلاء مستشفاي ، فقد كان يملك عينين جميلتين واسعتين . كان شابا نحيلا في الثالثة والثلاثين من عمره ، وكان اسمه فادي . قام ذلك الشاب بعمله على خير قيام . حارسا وساقيا وراعيا لبستان الورد . وكنت أعتمد عليه في مراقبة المرضى العميان أثناء تجوالهم وحركتهم في أنحاء المكان .
قلت له يوما : بعد نهاية فصل الصيف ، سيذبل بستان الورد هذا يا فادي ، فقد حلَّ الخريف وستعود الأرض جرداء كما كانت ، هل يا ترى سيتفتح مرة ثانية ويعاود النمو في الربيع القادم .
فأجابني : سوف لا يذبل أبدا يا سيدي ، فانه سيطرح بركته على الجميع والذي أرسله لنا هو الذي سيحفظه .
وفي يوم من أيام نهاية فصل الخريف والدنيا مساء هبت نسائم لطيفة شجية منعشة ، وأخذت أغصان الورد تتمايل بحركة غير مألوفة ذات اليمين وذات الشمال وكأن هناك يد خفية قاصدة تحريكها ، فتطايرت ملايين من تويجات ورودها الصغيرة الحمراء ، سابحة في الهواء ، داخلة عبر نوافذ وشبابيك المستشفى عابرة ممراتها الى غرف المرضى ، ثم أخذت تقترب من وجوههم لتلتصق في عيونهم ، كل عين تتكوم فوقها تويجات وردتين أو ثلاثة . كان منظرا في أول أمره ساحراً ومؤثرا وغريبا غرابة لا يمكنك تصورها .
كنت أتنقل بينهم وأُتمتم مع نفسي : يا رب الوجود ماذا يحدث ؟ فجميعهم دون استثناء الطفل والشيخ ، المرأة والعجوز ، القاسي القلب والرحيم ، العاصي والتائب ، جميعهم قد التصقت تويجات الورد في عيونهم دون استثناء ودون تمييز
قسم من المرضى أخذت عيونه تؤلمه ، وزاد ألمه بمرور الوقت ، ولكن الورد التصق بقوة على عينيه وأصبح غير قادر على إزالته . وقسم آخر لم يشعر بأي ألم ، بل بالعكس أخذ يدعك عينيه بصورة لا إرادية لإحساسه بان هناك شيئا غريبا قد حطَّ فوقها فتسببت حركته هذه بدخول مزيداً من تويجات الورد الى عينيه .
نظرت الى بستان الورد فلم يتبدل منه شيء ولم تنقص منه وردة واحدة ، إذن من أين طارت كل تويجات الورد هذه ؟
ونام الجميع في تلك الليلة بين مستغرب ومنفعل ومتوجس ومتألم . أما أنا فسهرت حتى الصباح أفُكر بالذي حدث ولا أجد له تفسيرا أبدا .
وبعد منتصف الليل ناديت على البستاني فوجده مثلي لا يزال صاحيا : قل لي يا فادي ، كيف بدأت الريح تتحرك عندما كنتَ في البستان ؟ ولماذا لا يزال الورد قائما على أغصانه ، كأن شيئا لم يكن ؟ فأجابني بهدوء :
- ألم تدري يا سيدي لقد مرَّ يسوع من هنا ، وحركة الورد التي أطارت تويجاتها كانت حركة يد يسوع . انتظر يا سيدي الى الصباح وسترى عمل يسوع في حياة هؤلاء الناس .
- وما أدراك أنت بأنه يسوع ، هل رأيته ؟
- نعم يا سيدي . قلبي رآه وليست عيوني . فرؤية يسوع لا تحتاج الى عيون ، ولكنها تحتاج الى أن تؤمن بوجوده . فهو لا يظهر الا لمؤمنيه .
نظرت الى الرجل حتى خلته لدقائق مجنونا .
با الهي كم هي غريبة هذه الليلة ، منذ مساءها حتى لحظتها هذه .
ويظهر بأنني قد غفوت إغفاءة قصيرة لحظة بزوغ الفجر ، حيث أفزعني لغط وصياح وضحكات ملأت فضاء المستشفى كله . هرولت مسرعا الى خارج غرفتي لأرى مرضاي جميعهم وقد استعادوا قوة بصرهم كاملاً ، وكأنهم لم يفقدوه يوما .
ناديت مهرولا على الحارس : فادي … أين أنت يا فادي ؟
فجاء مهرولا بوجه الجميل الضاحك وبادرني قائلا : ألم أقل لك يا سيدي .
فقلتُ له : انه ليس بستان ورد عادي .
- كلا يا سيدي ، انه بستان يسوع . وأنت يا سيدي أيضا ستحصل على ترقية في عملك .
- لماذا ؟ أ أنا الذي فتحت عيونهم ؟
- كلا يا سيدي ولكنك أحطتَّ بستان ورد يسوع بالحب والرعاية . أما أنا فقد انتهت مهمتي اليوم .
- لماذا ؟
- لأنني عشت حياتي كلها راعيا لبستان ورد يسوع تجدني أينما نمى بستانه وأينما تفتحت وروده في هذه الأرض . أودعك يا سيدي ، وأدعو لك الرب يسوع ليحفظك من كل سوء . فأنت رجل طيب .
ونمت في تلك الليلة وحيداً في مستشفاي الفارغ بعد ان شُفيَّ الجميع وغادروني وقلبي يصلي : (5 تَوَكَّلْ على الرَبِّ بكل قلبكَ ، وعلى فهمك لا تعتمد 6 في كل طرقك اعْرِفْهُ وهو يقوم سبيلك ) .
وما زالت الى يومنا هذا رائحة بستان ورد يسوع التي شممتها بنفسك تضوع من أرجاء المكان . أما الزهور الصغيرة الجميلة فقد انطبعت أشكالها وألوانها الى الأبد على وجه الصخور ، تذكرنا بتلك الليلة الرائعة التي زارنا فيها ربنا فادينا بسوع المسيح .
تعليق