إنه يوم السوق.
وفي هذا اليوم يكون حال المدينة الصغيرة "بيت عبرة" عجيبًا؛ لأنه في ذلك اليوم يزدحم الناس في الشوارع ويأتون من كل صوب واتجاه، يبتغون شراء الغلال والخضروات وأشياء أخرى كثيرة، لذلك كان هذا اليوم بالذات بالنسبة لتاجر اعتاد أن يفتح متجره بصورة يومية يوم غير مُربح، لأن الناس يهتمون بنوع آخر من البضاعة، وهذا الأمر جعل تاجر الجلود "يهوذا” “الإسخريوطي" يتأخر عمدًا عن ميعاده اليومي في فتح حانوته؛ إذ أن الحانوت يكون في العادة مرتعًا لباعة الغلال من أول النهار حتى منتصفه، حيث يجلسون مستندين على بابه المغلق ويعرضون بضاعتهم في سلال كبيرة لا تسمح للسائر أن يجد موضعًا لقدميه، لذلك يصبح الزحام مع قلة البيع مجتمعان معًا ليكون مشروع فتح الحانوت مبكرًا يعتبر فكرة غير موفقة.
لذلك كانت الساعة قد اقتربت من التاسعة[1] بقليل حين أخذ “يهوذا” يبحث عن مكان لقدمه وهو يتخطى الباعة الجالسين دون أن يفكر واحد منهم أن يفسح الطريق له، أو يعطي له مكانًا، ومع كل هذه العقبات التي اجتازها وصل أخيرًا إلى باب الحانوت، وما أن هم بفتح الباب، حتى فاجأه صوت غريب آتٍ من خلفه يقول بصوت أشبه إلى الصراخ:
  • السلام لك يا سيد “يهوذا”، لقد تأخرت كثيرًا في فتح حانوتك، لعل في تغيبك خيرًا.
نظر “يهوذا” إلى المتكلم، بعد أن فاجأته اللهجة الجليلية السوقية والفجة التي كان يتكلم بها، فوجد رجل من الواضح أنه من البسطاء، وفي صحبته رجل آخر ضخم الجثة ينتمي إلى نفس فئة الرجل المتكلم.
وعلى الرغم من تلك اللهجة التي ينفر منها أي شخص يسكن في إقليم اليهودية، إلا أنه كأي تاجر محنك، ابتلع مشاعره ورسم ابتسامة على شفتيه وقال ببساطة:
  • ولك السلام يا سيدي، إنني أفتح حانوتي في يوم السوق في هذا الميعاد، وأكتفي بساعتين أو ثلاث حتى موعد الإغلاق، فمعذرة إذا جعلتك تنتظر كثيرًا، هل من خدمة يمكن أن أؤديها لك؟
ابتسم الرجلان وقال المتحدث:
  • ألا تذكرني يا سيد “يهوذا”؟ .. لقد ألتقينا من قبل، فهل نسيتني؟
دقق “يهوذا” النظر في المتحدث، كان رجل في حوالي الأربعين من عمره، رداؤه رث يدل على فقره، أما لهجته فهي سوقية خالية من الرقي، وواضح أنه جليلي لا غش فيه، وبعد أن انتهي منه، انتقل إلى الرجل الآخر قليل الكلام، فوجده لا يختلف عن صاحبه من حيث المظهر، إلا أنه ضخم الجثة، ووجهه مخيف قليلًا بسبب جموده، وبدا كما لو كان يعمل في تكسير الحجارة أو شيء من هذا القبيل من الأعمال العنيفة، كما أنه تقريبًا لا يتكلم.
وعلى الرغم من الوضع المُزري الذي كان عليه الرجلين لم يظهر على “يهوذا” أي انطباع سلبي؛ حيث أن عمله كتاجر للجلود جعله يتعامل مع جميع الطبقات بنفس الأسلوب، فالسيد الغني نراه يأتي إلى الحانوت ليشتري، وذلك لأن لديه قدرة على الشراء بالطبع، والفقير بل والعبد أيضًا يمكنه أن يشتري إذا وجد من يرسله ليشتري، أي أنه يشترى نيابة عن الآخرين، وبالتالي لابد أن يتوفر الاحترام للجميع.
ابتسم “يهوذا” لابتسامة الرجلين وقال:
  • لا غرابة في أن نكون قد التقينا من قبل، ربما نكون قد التقينا يوم السبت في المجمع أثناء الصلاة أو ربما تقابلنا عند الأردن، حيث يوحنا النبي يعمد، أنا أذهب إلى هناك كثيرًا...
نظر الرجل المتقدم في الكلام إلى “يهوذا” بعيون لامعة براقة كمن يقول له أنه أخطأ في تخمينه، فما كان من “يهوذا” إلا أن يكمل ...
  • لك أن تقدم لي بعض العذر يا سيدي إن كنت لم أعرفك؛ فقد امتلأت البلدة بزوار كثيرين على غير عادة تلك البلدة الصغيرة، وذلك بعد أن ظهر ذلك النبـي المدعو يوحنا المعمدان، ذلك النبـي الجديد الذي يدعو اليهود إلى التوبة، والخروج عن تقاليد ديننا اليهودي فيعمدهم على شاطئ الأردن ... خبرني هل التقينا هناك؟
  • كلا يا سيدي، أيضًا لم يصدق تخمينك، لم نلتق في الهيكل ولا عند الأردن .. لقد التقينا في مكان آخر يا سيدي.
كان “يهوذا” أثناء الكلام قد انتهى من فتح الحانوت بعد أن نحي بمنتهى الرفق الباعة الجائلين جانبًا، فدعى ضيفاه للدخول لكي يتعرف عليهما أكثـر؛ إذ أنهما أثارا فضول “يهوذا”، فاستجاب الرجلان على الفور ودخلا الحانوت وراء “يهوذا”، الذي كان في أعماقه يلعن ذلك اليوم الذي بدأ بداية غير مبشرة بالخير.
جلس الرجل الضخم بسرعة، بينما راح الرجل المتقدم في الكلام ينظر إلى الجلود المعروضة في الحانوت، فقال “يهوذا” في نفسـه وقد أصابه الضجر: "متى تنتهي تلك القصة السخيفة؟" .. وبعد أن انتهى الرجل من تطفله قال: -
  • بضاعتك رائعة يا سيدي.
وبسرعة تغير وجه “يهوذا” ليصبح متفاخرًا سعيدًا بما لديه من بضاعة وقال:
  • إنني أمتلك أجود أنواع الجلود التي أشتريها من دمشق حيث يتواجد التجار الفينيقيون الذين يذهبون إلى سواحل البلدان جميعًا ثم يأتون إلي بأجود أنواع الخامات.
  • وهل تقدر على التجار الفينيقيين يا سيدي؟ .. أنهم على ما أعرف، تجار ماهرون ومن الصعب أن تغلبهم.
  • يا صاحب، أنا في تجارة الجلود منذ صباي، وقد علمني أبي فن المساومة مع الفينيقيين، والحيلولة من أن يخدعوني، وأنت تعرف أنه كلما نقص ثمن الخامات ازداد الربح.
أخذ الرجل ينظر أكثر إلى الجلود المعروضة ويبتسم في خبث.
  • أرى أن هذه التجارة مربحة يا سيدي.
نظر “يهوذا” إلى الغريب المتكلم في أسى، ولسان حاله يقول: ... كيف تكون مربحة والرومان جاثمون على صدورنا يأكلون من باكورة خيراتنا، والخونة أعوانهم من جباة الضرائب يزايدون في ضرائبهم فقسمت ظهورنا.
من جديد نظر “يهوذا” إلى ذلك الرجل، وزميله الضخم، وأخذ يفكر ... "ترى من عساهما أن يكونا؟ هل يمكن أن يكونا جاسوسين لنحميا العشار جاءا ليعرفا مقدار ما يجنيه الحانوت من ربح؟"
استبعد “يهوذا” هذه الفكرة في الحال، فلهجة الغريب تدل على أنه جاء من الجليل، بينما الحانوت في بيت عبـرة في اليهودية ... كما أن هذه ليست طريقة نحميا، الذي يفرض ضريبته بحيث يكون مطمئن تمامًا أنه أخذ حقه، من يكون هؤلاء إذًا؟ وماذا يريدون؟
قال “يهوذا” للغريب:
  • منذ حضور النبـي "المعمدان" والزوار كثيـرين، بعضهم يجيئون ليسمعوا النبـي ويرحلون، والبعض قرر أن يمكث في البرية ولا يرجع لبيته، والذين قرروا البقاء في البرية وراء ذلك النبي أصبحوا بالآلاف يملأون البـراري بأسرهم، وينتظرون أن يروا خلاص إسرائيل في الأيام القليلة القادمة، وأنت تعرف أنه أينما وجِد الزوار تزداد التجارة، مما يجعلني أعرض كمية أكبـر من البضاعة لعلي أحصل على بعض الربح.
  • أنت تاجر خبير يا سيد “يهوذا”، ويبدو أنك تعرف كيف تزيد من ربحك حتى في أسوأ الظروف.
ابتسم “يهوذا” في سعادة لهذا الثناء، ولكن ... ما زال لا يعرف هذا الرجل ولا الذي يريده، الشيء الذي يثق فيه هو أنه لا يريد شراء شيئًا من حانوته؛ فهو فقيـر ولا يستطيع دفع ثمن ما يبيعه، ولم يطل انتظار “يهوذا” كثيـرًا، ففي هدوء أخرج الغريب من ردائه ثمرة تين وقال ل”يهوذا”:
  • ربما هذه الثمرة سوف تعرفك بنا وتعرفك ماذا نريد منك الآن.
والحقيقة أن “يهوذا” فوجئ بهذه الثمرة فهـي تعنـي الكثيـر[2]، وفي الحال عرف “يهوذا” هوية ذلك الرجل الغريب وزميله، إنهما من رجال "“باراباس”" زعيم جماعة "السيكر"[3]، فتناول “يهوذا” الثمرة منه سريعًا وأسرع يقول له:
  • أهلًا أيها الصديق العزيز، اسمح لي أن أغلق الحانوت مرة أخرى ولنذهب معًا إلى البيت حتى نتحدث معًا بأكثر حرية.
  • لا داعي لهذا يا سيدي، يمكننا أن نتحدث هنا ولن آخذ من وقتك الكثير.
  • بل أنت ضيف علي هذا المساء يا سيدي، لنغلق الدكان الآن ولنذهب.
بدت كلمة سيدي التي تفوه بها “يهوذا” غيـر متناسقة مع هيئة الرجلين، ف”يهوذا” رجل يهودي بحق، سيد بكل ما تحمله الكلمة من معنى، بينما كان الرجل الجليلي أقل ما يوصف به أنه من حثالة القوم، لذلك من يسمع يهوذا يقول لذلك الغيوري كلمة يا سيدي فبالتأكيد كان سوف يظن أن يهوذا يسخر من الرجل، لكن مع ذلك، الكلمة لم تترك ذلك الاثر السلبي على وجه الرجل الغيوري، ولا على وجه زميله الخالي من التعبيرات، لذلك رد الرجل ببساطة:
  • يسوءني يا سيد “يهوذا” أن تغلق حانوتك بسببي، ولولا الأمر الهام الذي أريد أن أخبـرك به، لما سمحت لنفسي أن أعطلك عن رزقك.
  • إن الأمر الخطيـر الذي تريد محادثتي فيه يتعلق بثمرة التين، أليس كذلك؟
  • بالتأكيد، أريد أن أخبـرك ببعض الأشياء التـي تتعلق بتلك الثمرة وسأغادر سريعًا.
  • بل أنت ضيف عزيز علي ... معذرة، لم أعرف اسمك بعد.
  • اسمي سمعان ... سمعان الغيور.
ابتسم “يهوذا” وقال له:
  • إن اسمك يا سيدي هو نفس اسم والدي.
فضحك الرجل وقال:
  • لا غرابة أن يكون اسمك “يهوذا” واسم أبيك سمعان، هذان الاسمان لهما معنـى عظيم في تاريخنا المجيد، ولعلك تذكر “يهوذا” المكابي[4]، ذلك الرجل الذي كان كالمطرقة على رؤوس أعدائنا، وأخوه سمعان الذي حارب طويلًا ضد الاحتلال في دولة المكابيين العظيمة.
ابتسم “يهوذا” ونظر إلى الرجل الصامت وقال:
  • وما اسمك أنت أيضًا؟
  • تداوس.
  • أهلًا وسهلًا بك ...
  • مرحبًا، أنت غيوري أيضًا، أليس كذلك؟
واكتفي تداوس بأن أحنـى وجهه قليلًا مؤكدًا لحقيقة كونه غيوري، ولم يقل أي كلمة أخري، فنهض “يهوذا” في نشاط وقال:
  • الآن علينا أن نغادر هذا المكان المزدحم بهؤلاء الباعة ولنذهب إلى البيت.
  • لماذا؟ لا نريد أن نعطلك عن رزقك.
ابتسم “يهوذا” وقال ...
  • نحن نكسب رزقنا لكي نستطيع أن نؤدي مهمتنا التـي أوكلنا إياها الله، ليست النقود هدف في حد ذاته، بل في كيفية توظيفها.
  • معك حق سيدي، ونحن نثق أنك توظفها في مكانها السليم، ليذهب الرومان إلى الجحيم.
ولم يعجب “يهوذا” بهذا الأسلوب في الكلام، وهو ينظر إلى الباعة المفترشين أرضًا حول الحانوت ثم أوقفه سريعًا.
  • صه يا رجل، في هذا البلد عيون لا تغمض وآذان لا تهدأ .. لنكمل حديثنا في مكان آخر.
وعندما لاحظ سمعان خوف “يهوذا” عندما شتم الرومان أجفل قليلًا، وبدا كما لو كان قد غيـر بعض حساباته، وتراجع عن المضي مع “يهوذا” هو وصاحبه، فأسرع وقال:
  • حسنًا يا سيد “يهوذا” ولكن ليس الآن، لن نعطلك عن رزقك ... سنأتي إليك في المساء ... هل يمكن أن تنتظرنا للمساء؟
نظر “يهوذا” إلي سمعان الغيور بكثير من الدهشة، فبعد أن كان ضيفًا عزيزًا على منزله، الآن أصبح سيقابله في الليل ...وهو يعلم جيدًا معنـى أن يتقابل مع الغيوري بالليل في جنح الظلام، كما دُهش أيضًا على تحول لهجته التـي كانت حميمة إلى لهجة الحسم التي قالها، ولكنه تمالك نفسه وقال:
  • مثلما تحب، وفي المكان الذي تحب.
  • إذًا لتغادر الآن ونلتقي معًا في المساء .. سوف نلتقي هنا أمام الدكان، ومنه سوف نذهب إلى مكان آخر آمناً
&&&




[1] التاسعة معناها في توقيتنا الحالي الثالثة بعد الظهر.

[2] ثمرة التين هي إحدى رموز الأمة اليهودية قديمًا.

[3] السيكر: هي جماعة يهودية انشقت من جماعة أكبر هي جماعة الغيورين المنشقين بدورهم عن الفريسين .. جماعة السيكر أخذت على عاتقها محاربة الرومان ويسمون أيضًا بحاملي الخناجر؛ لأنهم كانوا يندسون في الزحام ويطعنون الجندي الروماني ثم يفرون سريعًا، وأيضًا قاموا بثورات مباشرة عدة مرات بهدف تحرير البلاد من الرومان، ومن أشهر رجالها رجل اسمه يهوذا الجليلي (أعمال 5: 36) الذي إدعى أنه المسيح وتبعه كثيرون، لكنه قُتل قبل بداية خدمة المسيح بحوالي 20 عامًا ، وباراباس واحد من قيادات هذه الجماعة التي هدفها تحرير إسرائيل من الرومان، ولكنه لم يدعي أنه مسيا.

[4] تستطيع معرفة تاريخ يهوذا وسمعان من خلال قراءة أسفار المكابيين الأول والثاني، ويوجد سفري الماكبيين في كتاب منفصل في مكتبة "دار المحبة"، أو يمكنك قراءته في الكتب ذات النسخة الأرثوذكسية وبعض تطبيقات الكتاب المقدس على الهواتف المحمولة.